رسالة من سجين إلى أخيه المهاجر...

سجن جو
سجن جو

2018-12-03 - 9:56 ص

مرآة البحرين (خاص): "عزيزي.. أحبك مثل أعز صديق، وأجمل أخ يا عزيزي..

إن كنت بخير فإني أفرح لأجلك، وإذا كنت في ظروف صعبة فأنت تستطيع أن تتجاوز المحن بذكاء وصبر وحكمة...

أما عني وأوضاعي، فبعد تقليب أبواب الصبر وجدت حيلة واحدة، أن أُلهم عقلي الواعي وعقلي الباطن أنه لا بد لي من نسيان احتياجاتي البشرية الفطرية كلها، ومنها الجوع.

وأن أحاول تقليد بعض الكائنات الحية في نظرية التكيف. هذا كلام نابع من قلبي وشعوري بالحياة اليومية التي أعيشها..

أخي وصديقي العزيز، أنا بجد استخدم كل طاقتي الفطرية والمكتسبة، وكل ما يوجد من ذرات تفاؤل في جسمي وروحي، لصنع صورة وهمية أو حقيقية، تمكنني من التفاعل والتغلب على الأزمات. تجارب الحياة تعلم، لكنها قاسية.. انتهى"

اليوم 2018/12/2

الساعة 8:35 صباحا

 

تلك رسالة كتبها أحد الشباب المعتقلين المحكومين بالسجن لسنوات طويلة على خلفية سياسية، لتصل إلى أخيه الذي هاجر من البحرين خوفاً من اعتقاله على ذات الخلفية، فيما يقضي أخوهما الثالث محكوماً في السجن أيضاً، ولسنوات طويلة أيضاً، ولذات الخلفية السياسية أيضاً.

الأم غادرها أبناؤها الثلاثة، ولم يعد ثمّة ولد لديها تسند بقايا عمرها عليه. هذا ما أصبح عليه حال البحرينيين، بين معتقل ومهاجر ومشرّد ومطارد، وكلٌ عليه أن يشحذ ما يملك من قدرات ليكيّف نفسه مع الواقع الذي صار لزاماً عليه العيش فيه والتعامل معه، وإن تجاوز هذا الواقع طاقته الآدمية.

لا أحد يعلم كمّ الألم المعصور في تلك الرسالة، ما لم يعش التجربة القاسية داخل السجون البحرينية، والأمد الطويل الذي ينتظر المحكومين باختبار أعمارهم فيها. لا أحد يفهم كم الصبر الذي يختمر في العبارة التي أوردها "بعد تقليب أبواب الصبر"، ما لم يذق الصبر على قساوة التعذيب الذي تلقّاه من أجل انتزاع الاعترافات المنصوصة، ما لم يتجرّع الصبر على سوء المعاملة التي يتعرّض لها والتجويع والحرمان والإذلال والتضييق، ما لم يتجرّع الصبر على فراق الأم، الأب، الزوجة، الأولاد، وتجرّع مرارة الصبر على فقدان ضحكة آخر طفل رزق به (آخر العنقود)، الصبر على الحرمان توصيل ابنك لأول يوم مدرسة، وحرمان ابنتك من رؤية فرحتك بتفوقها الدراسي. السجن الذي تصير فيه حاجات الإنسان الضرورية ضرب من الترف والخيال الجامح.

ماذا يعني "نسيان احتياجاتي البشرية الفطرية كلها، ومنها الجوع". كيف تكون مجبوراً على نسيان حاجاتك الفطرية الأساسية، إن هذا يتطلّب منك أن تنسى أنّك إنسان أوّلاً، فالإنسان لا يعيش بدون حاجاته الفطرية البسيطة والطبيعية، لكن السلطات البحرينية تمعن في جعلك تنسى انسانيتك حتى تتحوّل من كائن الفطرة إلى كائن مفطور. تريد أن تسلبك الشعور بالحياة نفسها، تريد أن ترديك محطّماً يائساً بائساً.

سيكون على جسدك أن يتكيّف مع الجوع الكافر الذي يكبر أكثر في الفراغ، الطعام الذي يصبح سدّ رمق فقط لا سدّ حاجة. ليس كافيا أن تتحمّل رداءة الوجبات الغذائية المقدّمة لك، بل عليك أن تتحمّل عدم وفرتها، أن تتكيّف مع طعام ينفد قبل أن يشعر جسدك الجائع بالاكتفاء، ولن يُسمح لك بشراء كميات إضافية كافية من الطعام من متجر السجن ولو على حسابك الخاص.

سيكون على جسدك الذي ينتفض من البرد في الشتاء، أن يستحمّ في الماء البارد، بعد أن تغلق إدارة سجن جو الماء الساخن عن السجناء كما تفعل مطلع كل شتاء، سيكون عليك أن تتكيّف مثل حيوان، على تحمّل قرصات الماء البارد الذي تسري فيك مثل كهرباء. وسيكون عليك أن تتلوّى من البرد مثل عصفور بعد أن تصادر ملابسك الشتوية، ولا تجد ما يسكّن ارتجافتك.

وسيكون عليك أن تتكيّف مع أن  تقوم مذعوراً في منتصف الليل كلما داهم شرطة السجن الزنزانة وأجبروك على الاستيقاظ وأخرجوك إلى الممر بحجة حملة تفتيش.

وسيكون عليك أن تتكيّف مع شرب الماء في قناني (الكلوركس) و(الفلاش)، وتسخن الأكل في الأكياس وحاويات البلاستيك التي تعثر عليها في الزبالة. عليك أن تتكيّف أن تعيش في مقبرة الأحياء المسمّاة سجون البحرين، وأن تستخدم كل طاقاتك الفطرية والمكتسبة، وكل ذرة تفاؤل في قلبك، من أجل أن تبقى حيّاً رغم الموت.