» رأي
مشاهدات من البحرين: الشهداء في ضيافة كريم
إيمان شمس الدين - 2013-05-06 - 12:21 م
عبر حلقات سأخط بقلمي مشاهداتي اليومية أثناء زيارتي لبلدي الثاني الحبيب البحرين وعل ذلك يفي بحق هذه الثورة المظلومة.
إيمان شمس الدين*
في بيت الشهيد حيث كل قطعة في منزله تحكي قصة، في كل من يتصل به بقرابة بصمة منه. لا تستطيع إلا أن تعتبر نفسك تلميذا صغيرا في مدرسة الشهداء، حيث اجتمعت كل معاني البذل والتضحية في أشخاص بعناوين مختلفة، وأعمار مختلفة وثقافات قد تجمعها هوية واحدة، لكنها متعددة المشارب والأفهام.
رغم استشهاده ورحيله بجسده إلا أن كرم روحه مازال يحلق في المكان، حيث هذا الدفء الروحي مازال يحمل عبقا ونفسا جامع يعكس كرم الشهيد كريم فخراوي. هناك في بيت كريم اجتمعت بعض عوائل الشهداء تروي كل أم أو زوجة أو أخت قصة الفقد والرحيل بالنسبة لها وقصة البدء والعروج والانبعاث من جديد بالنسبة للشهيد.
إذا زاوية النظر تختلف باختلاف النسبة، لكن يبقى الشيء الجامع الوحيد هو مبدئية التضحية لأجل الثورة وتحقيق أهداف الحراك التحررية.
في ذلك البيت الكريم اجتمعت حكايات وانطلقت القصة تلو القصة حيث الدمعة لا مكان لها لأنها قد تعتبر ضعفا في ثقافة الشهادة، بل لا تجد إلا ابتسامة عريضة من كل من يروي قصة الشهيد، ابتسامة تعكس عمق الألم من جهة، وقوة الصبر من جهة أخرى.
قصص مختلفة للشهداء والجلاد واحد والهدف واحد، أعمار مختلفة وثقافات عالية تعبر عن مستوى هذه الثورة التي يصح أن يطلق عليها ثورة النخبة، نخبة ظهرت إبداعاتها تحت سياط الجلاد، حيث التحدي يصنع إنسان، والأمل يصنع حياته والعزيمة ترسم له الطريق للوصول.
الشهيد رحل بجسده وبعث الحياة في جسد من حوله بل حلق بأرواحهم مع روحه، ليتحولوا به إلى معنى الحياة الحقيقية، الشهيد قدم حياته لكنه وهبها لأمه وأخته وزوجته قوة وعزما وإرادة وبدل حياة كثيرات، فرغم كل محاولات التجهيل التي يمارسها النظام بحق الثوار من خلال الفصل الممنهج من الوظائف أو مطاردة الطلاب من كل الأعمار ومن الجنسين إلا أن الثورة كانت بمثابة المدرسة الكبيرة التي خرجت أجيال تميزوا وأبدعوا بل حولت حياة كثير من الشباب والشياب من هامش الحياة إلى صناعة تاريخ أمة.
زوجته تحدثت عن بعض مناقب هذا الشهيد: كان إن أحضرت له ماء ليشرب دون طلب منه، يلتفت ويقول لي: استغفر الله أنت تحضرين لي الماء؟
الشهيد كريم فخراوي مارس كرم الضيافة وكان فخرا لكل من عرفه ولأسرته ونموذجا يستحق أن تطلع عليه الأجيال، حيث كانت حياته الحافلة بالعمل مغيبة عن الإعلام والناس، ليتحول بموته إلى نموذج تفاجأت حتى زوجته منه. تخاطبه "كريم ليتني علمت من أنت قبل أن ترحل" وهو ما يدلل على صدق كريم في كرمه وابتعاد الفخراوي عن التفاهر والتباهي بما يعمل، لكن من هرب في حياته من المجد والظهور كان لابد أن يسطع نجمه بعد رحيله وهي شيمة العظماء.
لكن هذه الحياة العامرة بالعطاء وهبها كريم لزوجته التي أصرت على إكمال مسيرة العطاء بل بعث فيها حياة جديدة من البذل والتضحية والعمل كي يبقى كريم حولها تخاطبه كل يوم وتبثه كل همها وكل ما قامت به وتقول له: "هل أنت ياكريم راض عني ؟"
أم الشهيد علي الشيخ " قربان العيد " تألقت بعفويتها في التعبير والحديث كعادتها حيث يخرج كلامها من القلب ليخترق القلوب " علي كان غير " جملة تعبر عن هوية الشهيد علي الشيخ ، قالت أحضرت له ملابس العيد مع أننا قررنا أن لا نعيد بسبب ظروف الثورة لكن لأنه صغير أحببت أن أفرحه لصغر سنه وطلبت منه أن يلبس ملابس العيد، إلا أنه أصلا لم يلتفت وقال: أمي آنا وين وأنتي وين؟ كناية عن انغماسه في متابعة أحداث الثورة حيث كان مشاركا قويا ومولعا بالشهيد علي المؤمن ملهمه للشهادة.
أم الشهيد علي الشيخ لا تستطيع أن تحضر العيد في البحرين وكل ما تفعله هو السفر في تلك الأيام لأنها أصلا لا تتحمل أن تكون في مكان هو البيت وزمان هو العيد حيث كان ولدها الشهيد علي قربانا له.
وحيث جلست أم حسين الجزيري ذات الملامح الحادة والعيون التي تحدثك عن تاريخ من الصبر والثبات ورغم تقدمها في السن إلا أنها حينما تحدثت وجدت جبلا من الصمود لا تهزه أعتى الرياح، حيث كانت مواجهتها مع السلطات مفصل جديد من مفاصل تعنت السلطة من جهة وإصرار الثوار على إكمال مسيرة الثورة من جهة أخرى، حيث استشهد الجزيري وتم اعتقال جسده بعد استشهاده وتمت مقايضتها بين أن تسلم الجسد ولكن بشرط دفنه دون تشييع أو سيبقى معتقلا رغم شهادته، لكنها اتخذت القرار بحزم في وجه الجلاد وقالت "لا".أريد تشييعه ولن أستلمه إلا إذا شيعته كأخوته الشهداء لكي نثبت جريمتكم بحق أبناء البحرين، وصبرت حتى حققت ما تريد وشيعت الشهيد الجزيري حيث كان كل شهيد يعيد إشعال الثورة من جديد ويبث فيها الحياة.وهذا ما كان يتجنبه الجلاد لأنه يعلم موقعية قيمة الشهادة في ثقافة الجماهير الثائرة.
وللشهيد يوسف موالي أيضا حكاية مع والدته ، التي قالت " لقد غرق ابني دون أن يبتل بالماء" كناية عن كذب السلطة التي ادعت أنها وجدت جسد الشهيد على شاطئ البحر.
لم تستطع أم الشهيد (موالي) أن تقبله لأنها كما قالت حينما رأته : " هذا ليس ولدي .. ولدي جميل " لأن الوجه كان من التعذيب قد تغيرت معالمه.
"كان متدينا، حريصا على مواقيت الصلاة، وعلم بيوم استشهاده قبل استشهاده وكتب على ورقة : هذا يوم من أيام الله " كما روت والدة الشهيد.
الشهيد أحمد إسماعيل من إعلاميي الثورة، روت أمه شهادته والغريب في الموضوع أنها قالت: دائما ما كان يصور الأحداث من فوق أسطح البنايات لكنه في يوم استشهاده نزل للتصوير من أسفل وحينما أصيب صور نفسه وهو يحتضر ليوثق جريمة السلطة وهو ما يعكس حسه الإعلامي الثوري في أثر الصورة في دعم الثورة وإدانة السلطة، وقالت :" خرج ليغطي كعادته، وبعد قليل علمت من أخبار الثورة أن هناك إصابة خطيرة بين شباب الميدان لا أدري لماذا هذه المرة شعرت بخوف وقلق على أحمد، وكان قلقي في محله ".
أم الشهيد علي مشيمع مفجر الثورة، كانت صامته طوال الوقت وطلبت أن لا تتحدث لكن قالت لي كلمة خاطفة حينما أردنا الرحيل: " قالت أن ثورة البحرين تبكي عند عرش الله وتشتكي مظلوميتها ".
ضم كريم في منزله بعض عوائل الشهداء ليحتضنهم كعادة احتضانه لهم في حياته ويكون النوذج الذي يعمل ولا أحد يعلم.
في مدرسة الشهادة تقف كتلميذ صغير في محضر الأساتذة، كشهداء لكل قصته لكن جمعتهم صفة مهمة هي صفة البذل والعطاء حتى كللوها بعطاء النفس لإجل أن يحيا هذا الوطن بسلام، ومدرسة ذوي الشهداء الذين رغم مرارة فراقهم للأحبة إلا أنهم أصروا أن يحولوا هذه المرارة لثقافة خروج نحو حياة أكثر استقرارا للبحرين ليكملوا مسيرة البذل والعطاء بالدم المكلل "بالشهادة" بمسيرة "الكلمة والموقف".
"مات الشهيد ونال العز والشرف" ، " وعاش أهل الشهيد ليحققوا العزة والشرف".
Chamseddin72@gmail.com
*كاتبة كويتية.