25 يناير و14 فبراير.. موعدان على حبّ واحد

نادر المتروك - 2013-01-25 - 7:21 ص


نادر المتروك*

لا يختلف انشدادُ البحرينيين نحو يوم 25 يناير عن انتظار المصريّين وتحفّزهم. لقد كان هذا اليومُ مشهوداً في حياة البحرينيين، ولا خلاف على أنّ هذا التّاريخ غيّرَ حياتهم وأعاد إليها التدفّق الثّوري، وعلى نحوٍ قد لا يقلُّ عن حدث البوعزيزي نفسه. أيقونة خالد سعيد تتقاطعُ بعمقٍ مع وجدان الشّبان البحرينيين الذين اختبروا ألواناً قاسية من التّعذيب في المعتقلات. كان النّموذج المصري أكثر اكتمالاً، ووضوحاً. ولذلك، كان من الطّبيعي أن يأخذه أهلُ البحرين بكلّ جدّيةٍ، وبكلّ تفاصيله. على هذا النّحو، حدّد البحرينيون يومهم الموعود، كما فعل المصريّون، وتوافقوا على وقتٍ معلومٍ للجميع ليخروجوا إلى السّاحات، واعتمدوا الحوار المفتوح في المنتديات لتبادل الرّأي، وتدارس الخيارات المُتاحة والفضلى. وهكذا، كان 14 فبراير مثلما هو 25 يناير، وكان دوّار اللؤلؤة كما هو ميدان التّحرير. 

ثورة 25 يناير لا تزال تكتبُ يوميّاتها، وهي مهيّأة لمفاجآتٍ قد لا تتوقّف، رغم مرور أعوامٍ ثلاثة على انطلاقتها، ورغم حصول تغييراتٍ ملموسة على مستوى النّظام السّياسي. إلا أنّ الصّعود الثّوري لم يجد مداه مع قبضة الإخوان المسلمين، ويشعرُ الثّوار أنّ القصّة لم تنتهِ بعد، وأنّ على السّاحات أن تستعدّ لجولاتٍ جديدة. تبدو هذه الصّورة مليئة بالمثاليّة، وربّما الغرور الثّوري والانتفاخ بالشّعارات. هناك منْ يرى أنّ مصر اليوم في أحسن حالاتها، وأنّ على الثّوار أن يتأقلموا مع الوضع السّياسي الجديد، وأن يأخذوا بالاعتبار ما يحدث في الجوار الإقليمي، فضلاً عن ضرورة إعطاء الحكم الإخواني فرصته الكافية. إلاّ أنّ هذه النّظرة - كما يعلمُ ثوّار الرّبيع العربي - مليئة بالخداع والانهزاميّة، وهي تنتمي إلى الحقبة المظلمة، حيث كان الحكّام ومثقفو النّخبة يُوجعون الآذان بمفاهيم الواقعيّة، وفنّ الممكن، والمرحليّة، والنّفس الطّويل، وضرورة تخفيض الإحساس الثّوري لصالح سياسة التّفاوض والقبول بالأمر الواقع.

من المؤكّد أن ثورة 25 يناير لم تبلغ منتهاها بعد، ولكنّها أيضاً لم تفشل كلّيّةً. لاشكّ أنّ الحكم الإخواني لا يُريح الكثيرين، ومن الصّعوبة أن يتمّ الانسجام بين النّفس الثّوري والنّزعة الإخوانيّة التي يستولي عليها المخيالُ الأيديولوجي من جهة، والبراجماتيّة القذرة من جهةٍ أخرى. إلا أنّ الثّورة ليست فوضى أيضاً، والحُلم الثّوري لا ينبغي أن يُصبحَ جدالاً عبثيّاً، وترويجاً للعدميّة. يتوجّب على الثّورة ألا تنهار أمام السّاسة، ومن الخطأ الفادح أن يُغادر الثّوار الميادين ويتركوا مصيرهم لقانون اللّعبة السّياسيّة. وفي الوقت نفسه، لابد أن تُعيد الثّورة تثقيف نفسها، وأن تُقيم المراجعات المستمرّة. عند هذه النّقطة بالذّات، أنجز البحرينيّون تفوّقهم الخاص، واستطاعوا أن يُتمّموا دروس 25 يناير.

ثورة 14 فبراير جمعت بين الثّوري والمنهجي. هذا الدّمج أنتجَ – مع الوقت – ثورةً قادرةً على مواجهة الظّروف المستجدّة بعقلٍ إيجابي وبرؤيةٍ متقدّمة. وفّرت النّقاشاتُ الدّيمقراطيّة في دوّار اللؤلؤة مادّةً مُشجّعةً على الجدال الدّاخلي، وهيّأ ذلك روحيّةً منفتحةً على التّداول الفكري والاختلاف بين الآراء. هذا الأفقُ الثّقافي لثورة 14 فبراير مدّها بقابليّات التّجدّد وتجاوز المعضلات. الثّورةُ التي يتغلغلُ فيها الوعي الذّهني، والانفتاحُ الرّوحي، والمصداقيّة الأخلاقيّة؛ تكونُ مُحصّنة ضدّ السّقوط والتّلاشي، وتُصبحُ ولاّدةً بالابداع والخطوات السّبّاقة. بسبب ذلك، استطاع البحرينيون التّلاقي في السّاحات، برغم الاختلاف في مستويّات الشّعار المطلبي، والانتماء السّياسي. لم تهدأ الميادين. كانت تارةً بيد القوى الثّوريّة، وتارةً أخرى بيد جمعيّات المعارضة. لم يكن الأمرُ ودّاً كاملاً، أو طلاقاً بائناً، ولكن الانجاز العملي والمنظّم مكّن تجسيرَ العلاقة بين الطرفين، ووصل الوضعُ أحياناً كثيرة إلى درجاتٍ من الغزل والإطراء المتبادل، كما فعلت المعارضة مؤخراً حين دعمت مسيرة المنامة التي أدراها ائتلاف ثورة 14 فبراير.

أهم أسباب هذا التوافق - وأحياناً الاتفاق - هو أنّ الجماعات الثّوريّة وضعت رؤيتها الكاملة، وكذلك الجمعيّات السّياسيّة، وجرى الاختلاف على الأرض على قاعدةٍ ثابتةٍ، وكلٌّ على نفسه هدى وبصيرة. عبّر "ميثاق اللؤلؤ" عن رؤية الحركات الثّوريّة (الائتلاف)، فيما شكّلت "وثيقة المنامة" خارطة طريق قوى المعارضة. حفّز ذلك على التنافس بين الطرفين، وكان تنافساً شريفاً في العموم، وحاول فيه كلّ طرفٍ تقديم الأفضل، والتعوّد على أخلاقيّة تحمُّل الآخر، على أقلّ تقدير.

ما الذي أخّرَ، إذن، تحصيل ثورة 14 فبراير على الانجازات؟ ثمّة عوامل كثيرة. هذه الثّورة ووجهت بقوّةٍ عسكريّة غير مسبوقة، وتكالبَ عليها زُرّاعُ الجنون الطّائفي، ووجد فيها الأمريكان منطقةً مغرية للابتزاز الإقليمي وترتيب موازين القوى. أمرٌ آخر مهم. كان يمكن أن تنتهي ثورة 14 فبراير إلى نفس النّهايات غير السّعيدة لثورة 25 يناير، وذلك فيما لو شربَ ثوّارُ البحرين الحلولَ السّامة التي قُدّمت لهم (فُرضت عليهم) من الدّاخل والخارج. لم تُنجِز ثورة 14 فبراير أهدافها حتّى اللّحظة، ولكنها لم تخسر نفسها، ولم تسلّم حالها ذليلةً لتجّار السّياسة والطّامعين في المكاسب العاجلة والغنائم المريحة، كما حصلَ – مع الأسف – مع ثورة مصر.

يُخطّط ثوّارُ المحروسة لحماسٍ ثوري جديد. البحرينيّون أعلنوا على برنامجٍ تصاعدي وصولاً إلى عيدهم الثّوري في 14 فبراير. يُنتظر من الشّباب المصري إنهاء عقدة "الجماعة" والتخلّص من التوهّمات الخاصة بها، وأنْ يرسمَ مصيره الثّوري على أسس التوافق الإيجابي، وقبول الاختلاف، والرّؤية السّياسيّة الواضحة. لا يجب أن يتنازل المصريّون عن الانتساب إلى نادي الرّبيع العربي، وتحمّلِ مسؤوليّة التّواصي الثّوري بين أعضاء هذا النّادي. في البحرين، لم يعد الشباب يمدّون أيديهم إلى أحد. التسوّلُ ممنوع. يحلمون بالأمل، ويحملون أرواحهم لتحقيقه بإرادتهم الذّاتيّة. العمل التّنظيمي والخبرة الميدانيّة أضفت طابعاً عقلانيّاً عاماً على ثورتهم. والمطلوبُ توسيع نطاق العقلنة، وشطْب الممارسات والتصرّفات غير المحسوبة. يملك الشّبابُ صموداً لا أحد يشكّ في صلابته، ولكن لا ينبغي إهمال العمل الإعلامي والجهد التثقيفي أو خفض درجاتهما داخل العمل الثّوري، خصوصاً مع عدم إنهاء النّقاش في العديد من الإشكالات المطروحة على ثورة البحرين، سواء ما تعلّق بالتدخّل الإيراني، أو التشبّع المذهبي، أو صدقيّة المطلب الوطني للمعارضة والثّوار. مجادلةُ هذه الأفكار لا يعني التّسليم بها، أو الانشغال فيها، ولكن ذلك جزءٌ لا يتجزّأ من المهام الثّوريّة.         
  
*كاتب بحريني.
        

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus