» رأي
البحرين: سيناريوهات ولاية العهد
عباس بوصفوان - 2012-12-06 - 7:45 ص
عباس بوصفوان*
وصلت مشاريع الإصلاح الاقتصادي التي يقودها ولي عهد البحرين إلى طريق شبه مسدود، وتتضمن هذه المشاريع، التي أطلقت في 2003، إصلاح الاقتصاد وسوق العمل والتعليم. وقد يعود تقهقرها، في الجوهر، إلى محاولات فصل الإصلاحين السياسي عن الاقتصادي، والسعي لتكريس نموذج احتكاري بوجوه جديدة وآليات عصرية، فيما لوبيات الاحتكار القديمة ستقف صدّا منيعا لمنع تحقيق نتائج تصب في الصالح العام، وتقلل من امتيازاتهم.
لقد انحرف إصلاح سوق العمل كليا عن مساره حين تم التأكد بأن المضي فيه سيصب في خانة المواطنين الشيعة العاطلين عن العمل، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي يستثمرون فيها، مادام التضييق عليهم على أشده لتأسيس شركات كبرى. فيما إصلاح التعليم سيفتح باب المنافسة في الاستثمار في التعليم الذي يراد احتكاره، وسيزيد من خيارات المواطنين الشيعة الباحثين عن تعليم جيد، عله ينتشلهم من وضعهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وهم الذين لا يجدون فرصتهم التي يستحقونها في البعاث التي تقدمها وزارة التربية والمؤسسات العسكرية.
ولم يحدث أي إصلاح اقتصادي، وظلت حفنة قليلة من المتنفذين يتحكّمون في الاقتصاد ويحتكرون الثروة، فيما الحديث عن "التنافسية" انصب على تنافسية البحرين وشقيقاتها الخليجيات، وتجاهل المستثمر المحلي الذي يصعب عليه منافسة التاجر الخليفي وواجهاته.
ولعل ذلك لا يلمسه المواطن العادي بالضرورة، بيد أن ملفات الإخفاق على مستوى إصلاح شركة طيران الخليج وغيرها قد سبب حرجا بالغا لولي العهد، فقد أثمرت برامج الإصلاح هذه عن خسائر يومية للشركة تقدر بنصف مليون دينار بحريني، كما تراجعت أرباح شركة "ألبا" لإنتاج الألمنيوم (كبرى شركات البحرين) "خلال النصف الأول من العام 2012 إلى نحو 57 مليون دينار، مقارنة بأرباح تبلغ 102.88 مليون دينار لنفس الفترة من العام 2011، وبنسبة هبوط تبلغ 44.63 في المئة".
وإلى جانب تشكيك الرأي العام في جدوى مشاريع ولي العهد، فقد أدخلت برامج الإصلاح المفترضة ولي العهد في حرب ضروس مع رئيس الوزراء، بلغت أوجها في يناير 2008. وقد كلفت هذه الحرب ولي العهد الكثير، لجهة كسبه خصوما شرسين: لوبي التجار، والإسلاميين السنة، وهم الحلفاء الموضوعيون لرئيس الوزراء ضد إصلاح الاقتصاد، وهم يعتقدون أن الإصلاح المفترض سيزيد من أعباء رجال الأعمال، ويصب في صالح المواطنين الشيعة، سواء التجار الذين قد تتاح لهم فرصا أكثر تنافسية، أو العمال الشيعة الذين يمثلون الغالبية في القطاع الخاص.
ويبدو ملفتا أن مشروع فتح سوق الاتصالات الذي سجل بعض النجاجات لم يربط بولي العهد!، مع إنه انطلق بمبادرة منه في 2003، لكن تم العمل على ربطه بأحمد عطية الله، المستشار المتشدد وسيء الصيت في الديوان الملكي، فيما يمكن لحاظ أن ملف البيوت الآيلة للسقوط قد أحيل من المؤسسة الملكية الخيرية إلى جهات حكومية أخرى، وعلى نحو عاجل، حين اتضح أنه مشروع متعثر، كي لا يرتبط فشله بالشيخ ناصر الذي يراد أن يكون ملفا بلا أخطاء.. فيما إلصاق الأخطاء بولي العهد بدت، في أحيان عدة، وكأنها سياسة يقودها النافذون في القصر.
لقد كان مقصودا الزج بولي العهد ـ الذي يقبل عادة بالدور المرسوم له وقد يتطوع لذلك ـ في أتون معركة استنزاف ضد رئيس الوزراء، ضمن حرب شاملة شنها الملك ضد عمه، في طريقه (الملك) للاستئثار بالسلطة. وقد لقي برنامج الإصلاح الشكلي الدعم من خصوم ولي العهد في القصر، خصوصا وأن هدفه الأساسي وغير المعلن والمتوافق عليه بين الابن وأبيه هو سحب صلاحيات عمهما رئيس الوزراء لا إعادة هيكلة الاقتصاد لغايات الصالح العام. لكن المتنفذين في القصر يدركون جيدا أن طاحونة برنامج الإصلاح المفترض ستكون كافية كي يخسر ولي العهد ثقة النخبة الليبرالية والمعارضة المعتدلة، وهي المرشحة لدعمه في قبال خصومه المحافظين، بيد أن كلا الطرفين لم يعودا يعوّلان عليه، سواء ليكون نموذجا للحكم الرشيد أو ليقود إصلاحا اقتصاديا جديا كما تأمل المعارضة، أو أن يكون يدا غليظة كما تريد الموالاة والمتنفذون من آل خليفة.
سيناريوهات ولاية العهد
يصعب رسم سيناريوهات واضحة لمستقبل الأخوين سلمان وناصر، في ظل مرحلة تحولات مرتقبة في طبيعة شكل الحكم، إذا افترضنا ـ وهذا ليس مؤكدا ـ أن تقدم السلطة البحرينية على مجموعة من الإصلاحات قد تؤثر على العصبة المعنية باتخاذ القرار. ولا يبدو منطقيا غض البصر عن التطلع الذي يبديه ناصر ليلعب دورا مهما في الدولة، والدعم الذي يلقاه في ذلك من والده والمحيطين به، وفي ظل الهشاشة التي يتسم بها أداء ولي العهد، وضعف تحالفاته.
إن شواهد عدة تؤشر إلى استمرار قيام وزير الديوان الملكي (قارئ أفكار الملك ومنفذها) بالدفع بناصر إلى أن يكون مقدما على إخوته، بما في ذلك أشقاء ولي العهد، مثل الشيخ عبدالله بن حمد (1975 ـ الآن)، الذي عُين في مارس 2010 ممثلا شخصيا للملك، في محاولة مكشوفة لاحتواء احتجاجات أبناء الشيخة سبيكة، الزوجة الأولى للملك، والتي تظهر في الإعلام باعتبارها "السيدة الأولى" في البحرين، ويعتقد أبناؤها أنهم أولى بالحظوة، فيما يرون أخاهم غير الشقيق ناصر يتقدم الصفوف بشكل صاروخي.
إزاء هذا المشهد، لعلنا أمام مجموعة من السيناريوهات المحتملة، أبرزها ما يلي:
السيناريو الأول: ناصر وليا للعهد
لست مترددا في القول إن الشيخ سلمان لا يمثل الخيار الأنسب للطاقم الحاكم، وللسعودية ليكون الملك المستقبلي للبحرين. ولعل هؤلاء، ومعهم قطاع واسع من الموالين السنة يفضلون الشيخ ناصر، لأسباب ذكر بعضها أعلاه.
لكن سيناريو الإطاحة بسلمان وتعيين ناصر محله قد تشكل قفزة تجر تداعيات ليست هينة، ولعلها تواجه معضلات عدة، أبرزها ما يلي:
المعضلة الأولى، التحالف المتين الذي بناه ولي العهد مع أميركا وبريطانيا، فيما صورة الشيخ ناصر تبدو كشاب متهور ويفتقر للحكمة، ولا يتمتع بعلاقة وطيدة مع الغرب، كما يفتقر المتشددون في القصر وفي ديوان رئيس الوزراء لهذه العلاقة.
ولا يُعرف فيما إذا كانت هذه المعضلة قد يكون تم تضخميها ضمن المعادلة، في ظل النهج السعودي الذي قد يكون تأثيره أكبر من الغرب. ولعل الرضوخ الأميركي البريطاني للابتزاز الذي يمارسه المتنفذون في القصر الملكي، والذين لا يترددون في توجيه نقد لاذع إلى أميركا وبريطانيا عبر نواب وجمعيات الموالاة وصحيفة الوطن، قد يعد مؤشرا على احتمال أن يتخلى الغرب عن سلمان، خصوصا وأن بعض الأصوات تعتقد أن استثمارها الطويل في ولي العهد لم يأت أكله، وبعض هذه الأصوات ترى التحالف مع الحكام الفعليين للبلاد أولى من التمسك بورقة سلمان، الذي يفتقد الكثير من صفات القيادة والحزم، من وجهة نظرهم.
وكان موقع ويكيليكس، كشف أن المحللين في واشنطن لاحظوا في 2009، وبعد "تحليل (سلوك) القيادة للعائلة المالكة البحرينية أن يكون الأمير ناصر بن حمد آل خليفة و(شقيقه الأصغر) الأمير خالد بن حمد آل خليفة أهدافاً صاعدة مهمة"، وأشارت الوثيقة المسربة إلى افتقار وزارة الخارجية الأميركية لمعلومات عن الأميرين، وطلبت "تقارير عن نطاق نفوذهم داخل الأسرة، والسمات الشخصية، والتخصصات المعرفية، وإذا ما كانا يتعاطيان المخدرات أو يشربان الكحول أو يسببان مشاكل داخل العائلة المالكة، وما إذا كان لهما أي أصدقاء بين المسلمين الشيعة، الذين يقفون عادة وراء الاحتجاجات التي تشهدها البحرين".
إن اعتبار الغرب قد حسم أمره لتولي سلمان السلطة بعد والده قد لا تكون بهذا اليقين، خصوصا حين نتذكر أن الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال اتخذ قراره بتغيير ولاية العهد ونقلها من أخيه الحسن إلى ابنه عبدالله الثاني قبيل أسابيع من رحيله في 1999، فيما تسنى للأمير القطري نقل السلطة من ابنه البكر مشعل إلى الابن الصغير تميم بسلاسة.
المعضلة الثانية، يفضل المواطنون الشيعة الشيخ سلمان على ناصر، بيد أن قطاع مهم من السُنة قد يفضل ناصر، لكنهم لن يستطيعوا رفض سلمان. وفي ظل هذه الظروف المعقدة، فإنه يصعب على الحكم تجاهل موقف الشيعة السلبي من ناصر الذي يعتبرونه متشددا ومنتهكا لحقوق الإنسان.
ولم تعتد العائلة الحاكمة أخذ رأي الشعب بالاعتبار في أمر هكذا أو حتى أمور أخرى أقل أهمية. ومع ذلك فإن تعيين ناصر وليا للعهد قد يعمق الخلاف البحريني البحريني، ويؤدي إلى تعزيز موقف قوى المعارضة الرافض لاستئثار آل خليفة بالسلطة، ويكرس شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ويزيد من شكوك الغرب في قدرة النظام الخليفي على اجتراح تسوية سياسية للمسألة البحرينية الدائمة.
إن وجود ناصر على قمة الهرم في الدولة يعني بوضوح استمرار سياسة اليد الغليظة والتطهير والتجنيس، وما يجره ذلك من تفاقم الأزمة السياسية في البلاد.
السيناريو الثاني: مملكة برأسين
في حال صعُب على العائلة الخليفية وضع ناصر بديل عن سلمان، لأسباب تتعلق بوحدة العائلة أيضا، وقد يصعب عليها إيجاد خيار ثالث من أبناء الملك، ولا يُعرف مدى جاهزية خالد بن حمد (1989ـ الآن) لهذه المهمة، وهو الابن الخامس للملك البحريني، ومتزوج من كريمة الملك السعودي عبدالله، والذي يصدُق ما يقال عن ناصر عليه... ولضمان أن تستمر الملكية في أبناء حمد، يمكن أن يتم طرح سيناريو مملكة برأسين: سلمان وناصر، الأول ملكا، والثاني رئيس وزراء، أو ولي عهد، رغم أن سلمان طالما أبرز ابنه عيسى باعتبار خلفا له.
معروف أنه إبان حكم الأمير الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة (1933 ـ 1999)، كان رئيس الوزراء الشيخ خليفة الحاكم الفعلي للبلاد، وهذا السنياريو قابل للتكرار مرة أخرى.
وحين كان محمد بن راشد وليا للعهد في دبي، فقد كان الحاكم الفعلي للإمارة، في ظل حكم أخيه مكتوم بن راشد آل مكتوم، وقد حسم الشيخ محمد ولاية العهد لابنه حين أصبح حاكم دبي، وكما نعلم فإن ناصر بن حمد متزوج من كريمة حاكم دبي.
وفي أبوظبي، انتقل الحكم من الراحل الشيخ زايد إلى ثنائي: حاكم أبوظبي خليفة وأخيه محمد الذي عيّن وليا للعهد، بيد أن الأخير هو فيما يبدو المتصدي لإدارة شئون الحكم.
إن خيار مملكة برأسين جُرب في البحرين ودبي وأبوظبي، وقد ضمِن للعائلة تماسكها، لكنه قد لا يضمن لسلمان تعيين ابنه في ولاية العهد.
إن هذا السيناريو يعني أن السلطة ستكون بيد ناصر لا سلمان، بكل ما يمثله ذلك من انتصار للنهج السعودي، الذي سيجذر التوتر ويفاقمه في البحرين.
الخاتمة
سيكون على ولي العهد الأخذ بجدية بالغة إقناع والده والموالين والمعارضين والسعودية بأنه قادر على حفظ مصالحهم، تحت سقف وطن واحد.
لكن لعله يفترض به أن يضع في ذهنه احتمالات الإطاحة به، كما على الحركة السياسية أخذ ذلك بعين الاعتبار، وعلى ناصر أن يتهيّب من موقعه الجديد إذا ما أصدر الملك أمرا ملكيا بذلك، سيكون بالضرورة مثيرا للجدل وزيادة القلاقل، وينمي القلق الغربي حول مدى نجاعة الخط الذي يقوده الملك حمد، والذي أدخل البلاد في مأزق غير مسبوق.
ولعلي أرجح بأن فرص ناصر تتزايد كلما تمكن والده من إخماد الانتفاضة غير المسبوقة التي تعم البحرين، فيما يتعزز وضع ولي العهد بوجود حراك شعبي، في ظل اعتقاد بعض أطراف العائلة أن سلمان قد يكون أحد مفاتيح التفاهم مع هذا الحراك.
ليست هذه دعوة للتحالف بين ولي العهد والمعارضة، كما سيكون من العجلة اعتبارهما في موقع تحالف موضوعي. فهذا لا يجر سلمان للنفخ في التظاهرات بطبيعة الحال، وهو يمضي معطيا غطاء لقمعها عبر سلوك العلاقات العامة التي يمارسها في داخل البحرين وخارجها، بيد أن الجمعيات المعارضة بقيادة "الوفاق" تظل تتمسك به كحليف في عائلة يغلب التشدد على قياداتها.
البحرين أمام مفترق طرق، واستمرار الوضع الراهن، أو حصول أحد السيناريوهين الأول أو الثاني لا يحمل الخير للبحرين، ولعل سيناريو التوافق الديمقراطي، الذي يفترض أن يشمل أيضا تمكين المؤسسة التشريعية من إقرار اسم ملك البلاد وولي عهده، وحسم الخلافات بشأن ذلك إن حصل، أحد الشروط التي قد تفضي إلى عدم السماح لشخص ـ مهما يكن ـ أن يتحكم بالبحرين. فالمؤسسة المنتخبة هي من يفترض أن تكون صاحبة القرار، ليس فقط في اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، وإنما أيضا في البت في اختيارات العائلة الحاكمة للشخص الذي سيعتلي سدة الملكية، كما تم ذلك في الكويت حين ثبّت مجلس الأمة الشيخ صباح الأحمد أميرا للدولة في 2006.
*صحافي وكاتب من البحرين مقيم في لندن.
وصلت مشاريع الإصلاح الاقتصادي التي يقودها ولي عهد البحرين إلى طريق شبه مسدود، وتتضمن هذه المشاريع، التي أطلقت في 2003، إصلاح الاقتصاد وسوق العمل والتعليم. وقد يعود تقهقرها، في الجوهر، إلى محاولات فصل الإصلاحين السياسي عن الاقتصادي، والسعي لتكريس نموذج احتكاري بوجوه جديدة وآليات عصرية، فيما لوبيات الاحتكار القديمة ستقف صدّا منيعا لمنع تحقيق نتائج تصب في الصالح العام، وتقلل من امتيازاتهم.
لقد انحرف إصلاح سوق العمل كليا عن مساره حين تم التأكد بأن المضي فيه سيصب في خانة المواطنين الشيعة العاطلين عن العمل، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي يستثمرون فيها، مادام التضييق عليهم على أشده لتأسيس شركات كبرى. فيما إصلاح التعليم سيفتح باب المنافسة في الاستثمار في التعليم الذي يراد احتكاره، وسيزيد من خيارات المواطنين الشيعة الباحثين عن تعليم جيد، عله ينتشلهم من وضعهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وهم الذين لا يجدون فرصتهم التي يستحقونها في البعاث التي تقدمها وزارة التربية والمؤسسات العسكرية.
ولم يحدث أي إصلاح اقتصادي، وظلت حفنة قليلة من المتنفذين يتحكّمون في الاقتصاد ويحتكرون الثروة، فيما الحديث عن "التنافسية" انصب على تنافسية البحرين وشقيقاتها الخليجيات، وتجاهل المستثمر المحلي الذي يصعب عليه منافسة التاجر الخليفي وواجهاته.
ولعل ذلك لا يلمسه المواطن العادي بالضرورة، بيد أن ملفات الإخفاق على مستوى إصلاح شركة طيران الخليج وغيرها قد سبب حرجا بالغا لولي العهد، فقد أثمرت برامج الإصلاح هذه عن خسائر يومية للشركة تقدر بنصف مليون دينار بحريني، كما تراجعت أرباح شركة "ألبا" لإنتاج الألمنيوم (كبرى شركات البحرين) "خلال النصف الأول من العام 2012 إلى نحو 57 مليون دينار، مقارنة بأرباح تبلغ 102.88 مليون دينار لنفس الفترة من العام 2011، وبنسبة هبوط تبلغ 44.63 في المئة".
وإلى جانب تشكيك الرأي العام في جدوى مشاريع ولي العهد، فقد أدخلت برامج الإصلاح المفترضة ولي العهد في حرب ضروس مع رئيس الوزراء، بلغت أوجها في يناير 2008. وقد كلفت هذه الحرب ولي العهد الكثير، لجهة كسبه خصوما شرسين: لوبي التجار، والإسلاميين السنة، وهم الحلفاء الموضوعيون لرئيس الوزراء ضد إصلاح الاقتصاد، وهم يعتقدون أن الإصلاح المفترض سيزيد من أعباء رجال الأعمال، ويصب في صالح المواطنين الشيعة، سواء التجار الذين قد تتاح لهم فرصا أكثر تنافسية، أو العمال الشيعة الذين يمثلون الغالبية في القطاع الخاص.
ويبدو ملفتا أن مشروع فتح سوق الاتصالات الذي سجل بعض النجاجات لم يربط بولي العهد!، مع إنه انطلق بمبادرة منه في 2003، لكن تم العمل على ربطه بأحمد عطية الله، المستشار المتشدد وسيء الصيت في الديوان الملكي، فيما يمكن لحاظ أن ملف البيوت الآيلة للسقوط قد أحيل من المؤسسة الملكية الخيرية إلى جهات حكومية أخرى، وعلى نحو عاجل، حين اتضح أنه مشروع متعثر، كي لا يرتبط فشله بالشيخ ناصر الذي يراد أن يكون ملفا بلا أخطاء.. فيما إلصاق الأخطاء بولي العهد بدت، في أحيان عدة، وكأنها سياسة يقودها النافذون في القصر.
لقد كان مقصودا الزج بولي العهد ـ الذي يقبل عادة بالدور المرسوم له وقد يتطوع لذلك ـ في أتون معركة استنزاف ضد رئيس الوزراء، ضمن حرب شاملة شنها الملك ضد عمه، في طريقه (الملك) للاستئثار بالسلطة. وقد لقي برنامج الإصلاح الشكلي الدعم من خصوم ولي العهد في القصر، خصوصا وأن هدفه الأساسي وغير المعلن والمتوافق عليه بين الابن وأبيه هو سحب صلاحيات عمهما رئيس الوزراء لا إعادة هيكلة الاقتصاد لغايات الصالح العام. لكن المتنفذين في القصر يدركون جيدا أن طاحونة برنامج الإصلاح المفترض ستكون كافية كي يخسر ولي العهد ثقة النخبة الليبرالية والمعارضة المعتدلة، وهي المرشحة لدعمه في قبال خصومه المحافظين، بيد أن كلا الطرفين لم يعودا يعوّلان عليه، سواء ليكون نموذجا للحكم الرشيد أو ليقود إصلاحا اقتصاديا جديا كما تأمل المعارضة، أو أن يكون يدا غليظة كما تريد الموالاة والمتنفذون من آل خليفة.
سيناريوهات ولاية العهد
يصعب رسم سيناريوهات واضحة لمستقبل الأخوين سلمان وناصر، في ظل مرحلة تحولات مرتقبة في طبيعة شكل الحكم، إذا افترضنا ـ وهذا ليس مؤكدا ـ أن تقدم السلطة البحرينية على مجموعة من الإصلاحات قد تؤثر على العصبة المعنية باتخاذ القرار. ولا يبدو منطقيا غض البصر عن التطلع الذي يبديه ناصر ليلعب دورا مهما في الدولة، والدعم الذي يلقاه في ذلك من والده والمحيطين به، وفي ظل الهشاشة التي يتسم بها أداء ولي العهد، وضعف تحالفاته.
إن شواهد عدة تؤشر إلى استمرار قيام وزير الديوان الملكي (قارئ أفكار الملك ومنفذها) بالدفع بناصر إلى أن يكون مقدما على إخوته، بما في ذلك أشقاء ولي العهد، مثل الشيخ عبدالله بن حمد (1975 ـ الآن)، الذي عُين في مارس 2010 ممثلا شخصيا للملك، في محاولة مكشوفة لاحتواء احتجاجات أبناء الشيخة سبيكة، الزوجة الأولى للملك، والتي تظهر في الإعلام باعتبارها "السيدة الأولى" في البحرين، ويعتقد أبناؤها أنهم أولى بالحظوة، فيما يرون أخاهم غير الشقيق ناصر يتقدم الصفوف بشكل صاروخي.
إزاء هذا المشهد، لعلنا أمام مجموعة من السيناريوهات المحتملة، أبرزها ما يلي:
السيناريو الأول: ناصر وليا للعهد
لست مترددا في القول إن الشيخ سلمان لا يمثل الخيار الأنسب للطاقم الحاكم، وللسعودية ليكون الملك المستقبلي للبحرين. ولعل هؤلاء، ومعهم قطاع واسع من الموالين السنة يفضلون الشيخ ناصر، لأسباب ذكر بعضها أعلاه.
لكن سيناريو الإطاحة بسلمان وتعيين ناصر محله قد تشكل قفزة تجر تداعيات ليست هينة، ولعلها تواجه معضلات عدة، أبرزها ما يلي:
المعضلة الأولى، التحالف المتين الذي بناه ولي العهد مع أميركا وبريطانيا، فيما صورة الشيخ ناصر تبدو كشاب متهور ويفتقر للحكمة، ولا يتمتع بعلاقة وطيدة مع الغرب، كما يفتقر المتشددون في القصر وفي ديوان رئيس الوزراء لهذه العلاقة.
ولا يُعرف فيما إذا كانت هذه المعضلة قد يكون تم تضخميها ضمن المعادلة، في ظل النهج السعودي الذي قد يكون تأثيره أكبر من الغرب. ولعل الرضوخ الأميركي البريطاني للابتزاز الذي يمارسه المتنفذون في القصر الملكي، والذين لا يترددون في توجيه نقد لاذع إلى أميركا وبريطانيا عبر نواب وجمعيات الموالاة وصحيفة الوطن، قد يعد مؤشرا على احتمال أن يتخلى الغرب عن سلمان، خصوصا وأن بعض الأصوات تعتقد أن استثمارها الطويل في ولي العهد لم يأت أكله، وبعض هذه الأصوات ترى التحالف مع الحكام الفعليين للبلاد أولى من التمسك بورقة سلمان، الذي يفتقد الكثير من صفات القيادة والحزم، من وجهة نظرهم.
وكان موقع ويكيليكس، كشف أن المحللين في واشنطن لاحظوا في 2009، وبعد "تحليل (سلوك) القيادة للعائلة المالكة البحرينية أن يكون الأمير ناصر بن حمد آل خليفة و(شقيقه الأصغر) الأمير خالد بن حمد آل خليفة أهدافاً صاعدة مهمة"، وأشارت الوثيقة المسربة إلى افتقار وزارة الخارجية الأميركية لمعلومات عن الأميرين، وطلبت "تقارير عن نطاق نفوذهم داخل الأسرة، والسمات الشخصية، والتخصصات المعرفية، وإذا ما كانا يتعاطيان المخدرات أو يشربان الكحول أو يسببان مشاكل داخل العائلة المالكة، وما إذا كان لهما أي أصدقاء بين المسلمين الشيعة، الذين يقفون عادة وراء الاحتجاجات التي تشهدها البحرين".
إن اعتبار الغرب قد حسم أمره لتولي سلمان السلطة بعد والده قد لا تكون بهذا اليقين، خصوصا حين نتذكر أن الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال اتخذ قراره بتغيير ولاية العهد ونقلها من أخيه الحسن إلى ابنه عبدالله الثاني قبيل أسابيع من رحيله في 1999، فيما تسنى للأمير القطري نقل السلطة من ابنه البكر مشعل إلى الابن الصغير تميم بسلاسة.
المعضلة الثانية، يفضل المواطنون الشيعة الشيخ سلمان على ناصر، بيد أن قطاع مهم من السُنة قد يفضل ناصر، لكنهم لن يستطيعوا رفض سلمان. وفي ظل هذه الظروف المعقدة، فإنه يصعب على الحكم تجاهل موقف الشيعة السلبي من ناصر الذي يعتبرونه متشددا ومنتهكا لحقوق الإنسان.
ولم تعتد العائلة الحاكمة أخذ رأي الشعب بالاعتبار في أمر هكذا أو حتى أمور أخرى أقل أهمية. ومع ذلك فإن تعيين ناصر وليا للعهد قد يعمق الخلاف البحريني البحريني، ويؤدي إلى تعزيز موقف قوى المعارضة الرافض لاستئثار آل خليفة بالسلطة، ويكرس شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ويزيد من شكوك الغرب في قدرة النظام الخليفي على اجتراح تسوية سياسية للمسألة البحرينية الدائمة.
إن وجود ناصر على قمة الهرم في الدولة يعني بوضوح استمرار سياسة اليد الغليظة والتطهير والتجنيس، وما يجره ذلك من تفاقم الأزمة السياسية في البلاد.
السيناريو الثاني: مملكة برأسين
في حال صعُب على العائلة الخليفية وضع ناصر بديل عن سلمان، لأسباب تتعلق بوحدة العائلة أيضا، وقد يصعب عليها إيجاد خيار ثالث من أبناء الملك، ولا يُعرف مدى جاهزية خالد بن حمد (1989ـ الآن) لهذه المهمة، وهو الابن الخامس للملك البحريني، ومتزوج من كريمة الملك السعودي عبدالله، والذي يصدُق ما يقال عن ناصر عليه... ولضمان أن تستمر الملكية في أبناء حمد، يمكن أن يتم طرح سيناريو مملكة برأسين: سلمان وناصر، الأول ملكا، والثاني رئيس وزراء، أو ولي عهد، رغم أن سلمان طالما أبرز ابنه عيسى باعتبار خلفا له.
معروف أنه إبان حكم الأمير الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة (1933 ـ 1999)، كان رئيس الوزراء الشيخ خليفة الحاكم الفعلي للبلاد، وهذا السنياريو قابل للتكرار مرة أخرى.
وحين كان محمد بن راشد وليا للعهد في دبي، فقد كان الحاكم الفعلي للإمارة، في ظل حكم أخيه مكتوم بن راشد آل مكتوم، وقد حسم الشيخ محمد ولاية العهد لابنه حين أصبح حاكم دبي، وكما نعلم فإن ناصر بن حمد متزوج من كريمة حاكم دبي.
وفي أبوظبي، انتقل الحكم من الراحل الشيخ زايد إلى ثنائي: حاكم أبوظبي خليفة وأخيه محمد الذي عيّن وليا للعهد، بيد أن الأخير هو فيما يبدو المتصدي لإدارة شئون الحكم.
إن خيار مملكة برأسين جُرب في البحرين ودبي وأبوظبي، وقد ضمِن للعائلة تماسكها، لكنه قد لا يضمن لسلمان تعيين ابنه في ولاية العهد.
إن هذا السيناريو يعني أن السلطة ستكون بيد ناصر لا سلمان، بكل ما يمثله ذلك من انتصار للنهج السعودي، الذي سيجذر التوتر ويفاقمه في البحرين.
الخاتمة
سيكون على ولي العهد الأخذ بجدية بالغة إقناع والده والموالين والمعارضين والسعودية بأنه قادر على حفظ مصالحهم، تحت سقف وطن واحد.
لكن لعله يفترض به أن يضع في ذهنه احتمالات الإطاحة به، كما على الحركة السياسية أخذ ذلك بعين الاعتبار، وعلى ناصر أن يتهيّب من موقعه الجديد إذا ما أصدر الملك أمرا ملكيا بذلك، سيكون بالضرورة مثيرا للجدل وزيادة القلاقل، وينمي القلق الغربي حول مدى نجاعة الخط الذي يقوده الملك حمد، والذي أدخل البلاد في مأزق غير مسبوق.
ولعلي أرجح بأن فرص ناصر تتزايد كلما تمكن والده من إخماد الانتفاضة غير المسبوقة التي تعم البحرين، فيما يتعزز وضع ولي العهد بوجود حراك شعبي، في ظل اعتقاد بعض أطراف العائلة أن سلمان قد يكون أحد مفاتيح التفاهم مع هذا الحراك.
ليست هذه دعوة للتحالف بين ولي العهد والمعارضة، كما سيكون من العجلة اعتبارهما في موقع تحالف موضوعي. فهذا لا يجر سلمان للنفخ في التظاهرات بطبيعة الحال، وهو يمضي معطيا غطاء لقمعها عبر سلوك العلاقات العامة التي يمارسها في داخل البحرين وخارجها، بيد أن الجمعيات المعارضة بقيادة "الوفاق" تظل تتمسك به كحليف في عائلة يغلب التشدد على قياداتها.
البحرين أمام مفترق طرق، واستمرار الوضع الراهن، أو حصول أحد السيناريوهين الأول أو الثاني لا يحمل الخير للبحرين، ولعل سيناريو التوافق الديمقراطي، الذي يفترض أن يشمل أيضا تمكين المؤسسة التشريعية من إقرار اسم ملك البلاد وولي عهده، وحسم الخلافات بشأن ذلك إن حصل، أحد الشروط التي قد تفضي إلى عدم السماح لشخص ـ مهما يكن ـ أن يتحكم بالبحرين. فالمؤسسة المنتخبة هي من يفترض أن تكون صاحبة القرار، ليس فقط في اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، وإنما أيضا في البت في اختيارات العائلة الحاكمة للشخص الذي سيعتلي سدة الملكية، كما تم ذلك في الكويت حين ثبّت مجلس الأمة الشيخ صباح الأحمد أميرا للدولة في 2006.
*صحافي وكاتب من البحرين مقيم في لندن.