» رأي
المكون الآخر ليس الجحيم
صافي نزار - 2012-11-06 - 8:39 ص
صافي نزار*
"أن تعترف بالآخر يعني أنك تُضعف نفسك". عبارة قالها إسحق رابين لمحدّثه وهو يسترجع معه المشاعر التي عصفت به عندما وقف مترددًا أمام ياسر عرفات الذي مدّ له يده مصافحًا بعد توقيع الاتفاق بينهما.
يرى علماء النفس أن الاعتراف بالآخر يعني أن ترتخي قبضة "الأنا" عن التحكم في "ذات" صاحبها، وأن تسمح لها بالتحرر من قيودها لتكتشف أنها ليست بمفردها وأن حولها "آخرين" يشاركونها في الوجود. عندها يباشر الوعي في نزع فتيل الصراع بين "الأنا" وبين الآخر "المغاير"، فيخف الصراع ويتناثر مع تزايد إدراك الذات لهذا الواقع الجديد: "لست وحدك؛ فهناك آخرون".
"أن تعترف بالآخر يعني أنك تُضعف نفسك". هل تختزل هذه العبارة معضلة ما يعتري المجتمع في البحرين من تفكك وتشرذم، وما يبديه من يملكون زمام المبادرة من تلكؤ في الدفع نحو تجاوز الألم والمعاناة التي مسّت جميع الأطراف، وإن اختلفت بينهم في الكيفيات والمسببات ومصادر الألم؟ إذا أسقطنا عبارة إسحق رابين على واقعنا في البحرين سنجد أن "عدم الاعتراف" هو واحد من أقوى أسلحة التمترس عند من يرفض قبول الآخر؛ فلا أحد يرتضي لنفسه أن يبدو ضعيفًا أمام الطرف المقابل.
وما يعمّق المشكلة في البحرين هو أن اعترافك بالآخر يستبطن معه أكثر من "اعتراف":
إنه لا يكفي أن تعترف بوجود الآخر وحسب، بل وأن تقبل بندّيّته لك؛ ولكن كيف وأنت الذي كنت إلى عهد قريب تستبعده وتقصيه من حساباتك، وإن حصل واعترفت بجزء من وجوده يومًا، نظرت إليه من شاهق، ورأيته أقل منك شأنًا وأقصر قامة.
إنه يعني أن تعترف بحقه في أن يكون شريكًا مساويًا لك في تقاسم الماء والفيء، وأن تعيد إليه ما أخذته منه باعتباره مكسبًا متاحًا ومغنمًا لا صاحب له.
إنه يعني أن تعترف بأن للآخر مالك وعليك ما عليه؛ وأن من حقه أن يقف بك أمام القضاء مطالبًا بالقصاص منك مقابل ما يتحمّل منك من أذى وما يقع عليه منك من ظلم.
إنه يعني أن تمتلك شجاعة الاعتراف بأنك أخطأت في حق الآخر عندما استكثرت عليه أن يطالب بحقه في الوطن، فضلاً عن حقه في المطالبة بذلك الحق؛ الاعتراف بأنك أخطأت عندما خذلته خوفًا أو تخلفت عن نصرته طمعًا، وتركته يتحمل – بالنيابة عنك – مسئولية أن يكون الوطن للجميع.
وفوق ذلك كله، إنه يعني أن تقبل الاعتراف بمحدوديتك؛ وأن الوطن لوحة لا ترسمها فرشاة واحدة ولا يكتمل جمالها بلون واحد؛ أن تعترف بأن الشمس والقمر لم يخلقا للدوران حول فئة من دون فئة؛ وأن الحقيقة أوسع من أن تكون مرآة لتجليات ضيقة، وآمال مختزلة؛ أن تعترف بأن أي جماعة - مهما بلغت وبلغ شأنها - لن تخرق الأرض بقدميها ولن تطاول الجبال بقامتها.
ولكن، الاعتراف بالآخر أيضًا "مقامرة"؛ إذ ليس لديك ما يضمن استجابة "الآخر" لاعترافك به وإقباله عليك. هو مقامرة لأنك لا تعرف ما سيعود به عليك هذا الاعتراف من نتائج سلبًا كانت أو إيجابًا، ولا أحد يرتضي أن يقرّ للآخر بضعفه وحجمه من دون ضمانة أو معرفة مسبقة بالنتائج. ولكن هذه هي طبيعة "المقامرة": أن تقامر بما لديك بأمل الربح والكسب. ولا تكون مقامرة من دون "مبادرة" أو مبادرات قد يفشل بعضها وينجح بعضها إلى أن تكتمل الصورة ويتم المشهد.
لقد سبقتنا شعوب عدّة، اكتشفت بعد معاناة طويلة أن شجاعة الاعتراف بالآخر رغم كونها "مقامرة" إلا أنها أجدى نفعًا وأقل تكلفة من مواجهته بالإقصاء أو بالرقص على جراحه. شعوب ارتضت لنفسها التضحية بـ "الأنا" الشحيحة مقابل أن تربح أوطانها، وتستعيد حريتها، وكرامتها. ولعل هذا هو ما رمى إليه رئيس الولايات المتحدة الأسبق بيل كلينتون عندما علق على الاتفاق بين إسحق رابين وياسر عرفات بأنه "مقامرة شجاعة".
* كاتبة من البحرين.