الإنسانية العرجاء في البحرين
مرآة البحرين - 2024-12-27 - 5:30 م
الشعارات البرّاقة هي أكثر ما يركًن إليه المسؤولون في البحرين. من الحاكم الى أصغر شخصية رسمية في البلد، الكلّ يُردّد عبارات التسامح والتعايش والسلام والإنسانية. بمناسبة اليوم الدولي للتضامن الإنساني الذي صادف مروره في الـ20 من كانون الأول/ديسمبر الجاري، أسهب وزير الخارجية عبد اللطيف الزياني في الحديث عن دور البحرين في ترسيخ معالم الإنسانية بمعيّة ملك البلاد، مُعربًا عن اعتزازه بـ"النهج الإنساني الحكيم للملك وتوجهات الحكومة برئاسة الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء في تعزيز رسالة البحرين الإنسانية السامية والنابعة من قيمها الدينية والحضارية الأصيلة وتقاليدها التاريخية العريقة في ترسيخ قيم الخير والعطاء والتضامن على مختلف الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية".
وعلى هذا المنوال، عزَف أكثر من مسؤول لحْن الإنسانية المُدّعاة في المملكة. وزير الداخلية راشد بن عبدالله، الوكيل المساعد للشؤون القانونية بوزارة الداخلية العميد حمود سعد حمود، المدير العام للشؤون القانونية وحقوق الإنسان بوزارة الخارجية السفير يوسف بوجيري، رئيس المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان علي الدرازي، لجنة الشؤون التشريعية والقانونية بمجلس النواب، معهد البحرين للتنمية السياسية، كلّ هؤلاء أغدقوا وسائل الإعلام المحلية بالحديث عن مظاهر حقوق الإنسان في البلد. وكأنّ أمرًا ساميًا، وربّما كذلك حقًا، وُجّه إليهم لفتح معجم الإنسانية على مصراعيه.
الأبرز في هذه التصريحات المطلوبة كان ما تضمنّه وزير الداخلية راعي التوقيفات والاعتقالات والمُلاحقات. يقول الأخير حرفيًا إن "الرؤى الملكية السامية لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم، حفظه الله ورعاه، تشكل الأساس الرصين، الذي انطلق منه مشروع العقوبات البديلة، منذ بدء تنفيذ القانون عام 2018 والذي يشكل نقلة حضارية في مسيرة حقوق الإنسان في مملكة البحرين، انطلاقًا من قيم ومبادئ العهد الإصلاحي لجلالة الملك المعظم"، ويُجدّد التأكيد على "التزام مملكة البحرين بحماية حقوق الإنسان، من خلال الاستمرار بتطوير التشريعات ونظم العمل والممارسات وفق أعلى المعايير الدولية لضمان حمايتها وتعزيزها".
تُريد دولة آل خليفة بأسمائها المُختلفة أن تُرسّخ وتُسقط صفة صورة المدينة الفاضلة على البحرين، وتجهد من أجل ذلك في الإعلام الذي يستهدف بالدرجة الخارج وليس الداخل، فأهل البلد يعرفون مُعضلتهم وانفصام الحُكم عن كثير منهم.
بحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، حقوق الإنسان هي حقوق نتمتّع بها جميعنا لمجرّد أنّنا من البشر غير قابلة للتصرّف، ولا تجدر مُصادرتها وحرمان أيّ شخص منها. أمّا المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المُعتمد من الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1948) فتنصّ على أن جميع الناس يولدون أحرارًا ومُتساوين في الكرامة والحقوق، بينما تنصّ المادة الثانية منه على التحرّر من التمييز التي تضمن هذه المساواة.
معيار الإنسانية اذًا لا ينسلخ عن تملّك حقوق طبيعية وبديهية كالحرية والتعبير عن الرأي، وهو ما يتناقض مع وضع البحرين. لا مجال للحديث عن الإنسانية وحقوقها في ظلّ النظام السائد في المملكة. ولا مُقارنة مع سائر الدول الغربية التي تحرص السلطة الحاكمة على مُخاطبتها وتبييض صفحتها أمامها بشكل دائم.
خرق مبادئ الإنسانية في البحرين جليّ. بمجرّد وجود السجن السياسي الذي يدخله كلّ مُعارض لأهواء الملك والطبقة الحاكمة دليلٌ على نقْض كلّ معايير حقوق الإنسان الدولية. لا يصلح رفع الشعار صُوَريًا بما هو بعيدٌ عن الحقيقة. معتقلو الرأي في البحرين ومِحنتهم المستمرة منذ عقود جراء استفحال العقلية الأمنية والإقصائية منذ استحواذ آل خليفة على السلطة، تدحض كلّ مزاعم التسامح والتعايش الإنساني وقبول الآخر. من يزجّ الناس في الزنازين وينتهك حقوقهم على خلفية تعبير عن موقف سياسي بأيّة وسيلة كانت، أو نزوله الى الشارع للغرض نفسه، لا يمكنه التنظير ووعْظ الناس والاحتفال بأيّ مناسبة على علاقة بالإنسانية ومُفرداتها.
أهل البلد وذوو المئات من سجناء الرأي في البحرين ما زالوا يتذكّرون جيدًا كيف لم يستطع بابا الفاتيكان فرنسيس السكوت عن أزمة حقوق الإنسان لديهم، عندما زار المنامة عام 2022 وحثّ على مسمع الملك السلطات المحلية على احترام حقوق الإنسان والحرية الدينية، داعيًا الى "ضمان عدم انتهاك حقوق الإنسان الأساسية والعمل على تعزيزها". يومها انقلبت الزيارة على النظام ولم تُحقّق ما أراده في تقديم مسرحية عالمية على هواه. تردّد حينها أن مكتب البابا تلقّى شكاوى إنسانية حول حجم الظلم الذي يعيشه السجناء السياسيون ومرّ به ضحايا التعذيب والتنكيل والإعدام.
لذلك، فلْيُغيّر الملك معزوفته المُمِلّة، ولْيبتعد عن عناوين حقوق الإنسان والتعبير عن الرأي والتعايش ولْيُقفل مركزه العالمي للتعايش السلمي. لا مكان للتسامح في البحرين والتعاطي الإنساني في ظلّ النهج الاستفرادي والإلغائي الذي أسّسه آل خليفة. عندما تبدأ القبيلة الحاكمة بتقبّل الآخر وتفكيره، وتحتوي هواجسه وتُطمئنه لناحية ضمان حريّته ومُعتقداته مهما كانت، فحينئذِ سيكون بمقدروها رفع شعار الإنسانية بأشكالها المُختلفة، وليس عبر الوقوف على خواطر دول نائية بُعد البحار والمُحيطات، أو عبر توزيع المساعدات الصُوَرية هنا أو هناك.