» رأي
قضية المرتزقة في البحرين بين الحقيقة والمجاز
يوسف مكي - 2012-10-27 - 6:08 ص
يوسف مكي*
تابعتُ حركة الشارع في الثورات العربية، ابتداءً بشعارات وهتافات الثائرين في تونس، ومرورًا بالثورة المصرية واليمنية، فلم أجد مَنْ وَصَف قوات الأمن أو أفراد الجيش في هذه البلدان بالمرتزقة ، على الرغم من القمع الشديد الذي تعرض له المحتجين والذي راح ضحيته آلاف من الشهداء في مصر كان الوصف بلطجية، لكن الشعب لم يصف قوات الأمن بالمرتزقة. حتى في سوريا، التي قتل فيها الآلاف من الثوار من قبل قوات الأمن والجيش، واختفى الآلاف، فإن الثائرين كل ما قاموا به هو أنهم وصفوا عناصر قوات الأمن السورية بالشبيحة، والجيش وصفوه بجيش النظام، والجيش الأسدي، لكن لم يصفوهم بالمرتزقة.
فقط في ليبيا والبحرين وصف الثائرون قوات النظام بالمرتزقة، ولم يكن هذا الوصف من باب المجاز، إنّما من باب الحقيقة في كلا البلدين، والشواهد تثبت ذلك. وبالفعل فقد أثبتت الأحداث في ليبيا أن القذافي استعان بأعداد كبيرة من الدول المجاورة كمرتزقة، وخاصة من جمهورية مالي، لمحاربة أبناء شعبه وقتلهم، وقد شاهد العالم ذلك على وسائل الإعلام، (بالإضافة لاعترافات) واعترافات العديد ممن تم تجنيدهم لقمع الشعب الليبي وتم القبض عليهم، أثبتت كلها أنهم مرتزقة جلبوا من بلدان مجاورة .
أما في البحرين، فكون قوات الأمن من المرتزقة، في غالبيتهم، فهذا ليس أمرًا جديدًا –والبحرين صغيرة وكل شيء معروف ومكشوف- بل هو قديم منذ لحظة تشكيل جهاز الأمن على يد البريطانيين، حيث كان البلوش والهنود وغيرهم من الأجانب هم قوام قوات الأمن في البحرين بدلًا من قوات الشيوخ المكونة من أبناء القبائل الحليفة، والمعروفة بالفداوية، مع وجود قاسم مشترك بين الفداوية والمرتزقة، وقد استمرت هذه السنّة؛ جلب الأجانب لتجنيدهم في قوات الأمن وخاصة في قوات الشغب من قبل النظام، منذ الاستقلال حتى ثورة 14 فبراير، وازدادت وتيرة جلب الأجانب من كل حدب وصوب للانضمام لقوات الأمن، بهدف قمع الحراك الشعبي . حدث ذلك في انتفاضة التسعينات، ويحدث الآن.
لكن المفارقة أن النظام يتعامل مع من يجلبهم باعتبارهم مواطنين، وأنهم عندما يواجهون المتظاهرين ويرمونهم بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص الانشطاري (الشوزن) والمطاطي وغيرها من الأسلحة، إنما يقومون بأداء الواجب، حتى عندما يمارسون قتل المحتجين، فإنهم إنّما يدافعون عن النفس، ويقدّمون خدمةً للوطن وفقًا للنظام.
تصوروا هكذا تتحول الأمور وتنقلب الصور والأشياء في البحرين، على يد النظام، يصبح الغرباء، المنضمون إلى قوات الأمن، مواطنين بقدرة النظام، وقتيلهم يصبح شهيد الواجب، أي واجب ؟ لا ندري ، وأكثر من ذلك تقام له مراسيم تشييع يحضرها كبار القوم، وعلى رأسهم وزير الداخلية، وتصاغ رواية إعلامية حول مقتل هذا المرتزق أو ذاك، وتضيع الحقيقة.
نعم هكذا تصبح مواجهة المواطنين، الذين تفتّحت عيونهم وعيون آبائهم وأجدادهم على هذه الأرض، من قبل شخص من بلوشستان، أو من شبه القارة الهندية، أو من اليمن السعيد، أو من سوريا التعيسة، عملًا بطوليًا، وتصبح مواجهته للمواطنين العزل مهمة في أداء الواجب، وفي حالة موته، لأي سبب من الأسباب، سيصبح شهيد الواجب. طبعًا واجب قتل المواطنين أو المواجهة معهم، في حين أن المواطنين الذي يُقتلون أو يُجرحون -وما أكثرهم- يصبحون في مفهوم النظام إرهابيين ومخربين. إنها الحقائق المقلوبة، القوات المجلوبة من كل فج عميق تؤدي الواجب وتموت من أجل الواجب، يا للعجب!
لكن بالمقابل، فإن التاريخ علّمنا أنّ جيوش المرتزقة والانكشارية هي ظاهرة قديمة، وربّما تكون قد انقرضت في معظم مناطق العالم. فقط في البحرين لا تزال ظاهرة المرتزقة تعمل على قدم وساق، وتمثل جزءًا من صميم سياسة النظام في استمراريته. والشيء المؤكد في ظاهرة المرتزقة -من الناحية التاريخية- عندما يموت أحد عناصرها، فإنه لا يصبح شهيدًا ولا صاحب قضية، ولم يقم بأداء الواجب، لسببٍ بسيط، لكنّه مهم جدًا، وهو أن المرتزق جاء أصلًا من خارج الحدود، جلبه النظام ليقتل، وليدافع عن النظام، فولاؤه لمن جلبه ولمقدار العطايا، وليس للوطن. فقط في البحرين يصبح المرتزق شهيد الواجب، وابن الوطن.
فهذا عمله مقابل مبلغ مادي، ولا تهمه لا مصلحة الوطن، ولا مصلحة المواطن، فالواجب الذي يؤديه ذلك الشخص المجلوب هنا هو الدفاع عن بقاء النظام، والمهم بالنسبة إليه هو المقابل المادي، أما الرابطة الوطنية والإنسانية والوجدانية مع من يتعامل معهم فهي مفقودة تمامًا، وبالتالي لا يتورع من (عن) أن يقوم بما لم يستطع أن يقوم به عنصر وطني، وهذا معنى المرتزق، فهو يؤدي مهمة أقرب إلى القذارة تجاه أناس لا تربطه بهم أية علاقة.
وأيضًا بعد أن انقرضت ظاهرة المرتزقة تقريبًا من العالم، لماذا لم تزل مستمرة في البحرين، وهي بلد صغير وموارده محدودة؟ وليس في أسوأ الأحوال بحاجة إلى قوات أمنية قوامها المرتزقة. فالمواطنوان قادرون على تلبية حاجة هذا القطاع. أقرب إجابة على هذا السؤال هي: أن ذلك يعكس أزمة تاريخية بنيوية متجددة في النظام السياسي في البحرين، أي في عدم تصالح آل خليفة مع شعبهم، وتفاصيل هذه الازمة المركبة تتمثل في أن النظام ليس على وفاق تاريخي مع من يحكمهم شيعة وسنة، وبالتالي لا يستطيع إلا أن يستعين بعناصر أمنية غريبة عن الشعب الذي يحكمه، ولا يهمه أن تكون تحت اسم مرتزقة أو تحت أي تسمية، لأن ما يهمه هو بقاء مصالح القبيلة أولًا وأخيرًا، حتى لو اضطر أن يجلب شعبًا آخر مكان شعبه، وما التجنيس السياسي إلا شكل من أشكال الاستبدال.
كما أن اعتماد النظام على قوات أمن من خارج الحدود، في الوقت الذي يخدم ذلك النظام، فإنه يعني بشكلٍ أو بآخر إدانة للنظام، لأنه يمنع على مواطنيه الانخراط في قطاع من أهم القطاعات –الأمن- ويستعيض عنهم بغرباء، أي بمرتزقة، قد يجنسهم، لكن هذا لا يغير من جوهر القضية شيئًا، بل يعقّدها، ولا يجعل ممن اكتسب الجنسية هكذا مواطنًا بالمعنى الوجداني والثقافي والاجتماعي والوطني، فوثيقة التجنيس لا تلغي مبدأ الارتزاق، كما أن للمواطَنة الحقة أسسها التاريخية في المكان والزمان.
إلا ان النظام، ومنذ عشرات السنين، وبحكم علاقته المتوترة دائمًا مع شعبه، لا تعنيه كل هذه الأمور في شيء، حيث يصبح القادم توًا من الهند، أو بلوشستان، أواليمن، أو الأردن، مواطنًا كامل الأوصاف، لأن النظام نفسه تعوزه الروح الوطنية. لذلك لا غرابة أن يقوم النظام بتصوير من يُقتل من هؤلاء الذين جلبهم بطريقة تراجيدية وقد سقطوا شهداء -جراء عنف الإرهابيين والمخربين- في الوقت الذي لم يسأل النظام، ولا وزير داخليته، ولا أي من شخوصه، عمن قُتلوا جراء نيران قوات الأمن التي قوامها الغرباء، بدلًا من المواطنين.
وهكذا تكون المفارقة في هذا البلد: مواطنون يصبحون غرباء في وطن الآباء والأجداد، وغرباء جاءوا من أجل الارتزاق والقتل يصبحون مواطنين بمجرّد حصولهم على وثيقة الجنسية، ويموتون من أجل أداء الواجب. هي البحرين صغيرة والكل يعرف الكل، لذلك لا غرابة أن يميّز المواطنون بين من هو مرتزق في قوات الأمن، ومن هو المواطن الحقيقي. وصفة مرتزق التي يطلقها المواطنون ليست مجازًا بل حقيقة. والنظام يعرف ذلك تمام المعرفة، لكن هذا هو النظام كما عوّدنا في سياساته العقيمة تجاه شعبه.
* باحث بحريني متخصص في علم الاجتماع.