عباس المرشد: ثورة البحارنة في 1923: الصراعات الداخلية وسنوات مجازر الإبادة (2-3)

عباس المرشد - 2023-09-22 - 7:00 ص

لم تكن تلك العريضة التي سبقت الإشارة إليها وإلى ظروف كتابتها، يتيمة ومفردة، بل إن الميجر ديلي يقول إنه أعد صندوقا لجمع مثل تلك العرائض السياسية الموجهة إلى المعتمدية البريطانية والتي تشكو تدهور أوضاع البحرين وانحدار مستوى الكرامة الإنسانية فيها.
لا يعرف سبب تلك الجرأة التي وسمت حراك البحارنة في تلك الهبة لكنه حتما مرتبط بزيادة حدة منسوب الإجرام الممارس ضدهم من قبل عصابات الفداوية وتراخي الحاكم عنهم أو كما كان الشيخ يوسف العصفور يصف اعتداءات العتوب على قرى البحرين في 1700 بأن "يد الحاكم قاصرة عنهم".
المؤرخ محمد على التاجر في كتابه "عقد الآل في تاريخ أوال" كان من ضمن المعارضين لمثل هذا الحراك السياسي الذي قام به البحارنة، رغم رفضه لمسلسل الإجرام المتتالي في حق القرى البحرانية، وهو يأخذ رأي الريحاني محمل الجد، ويرى رأيه من أن الميجر ديلي هو من تسبب في تحريض البحارنة على الحاكم وشجعهم على الاعتراض بدلا من التبرم والامتعاض.
الحقيقة أن الظلامات لا تحتاج إلى تحريض للانتفاض عليها ولم يكن البحارنة ناقصي شجاعة أو محبين للذلة كي يرفع المستعمر فيهم درجة حساسية الكرامة. ربما أدرك البحارنة حينها أن حماية البريطانيين للحاكم في أدنى درجاتها نظرا لخلافاتهم معه حول ضريبة الميناء وبعض القضايا الأخرى، فالحاكم والإدارة البريطانية هما طرفا احتلال لا أكثر لكن البريطانيين أقوى وأشد تمرسا في حكم البلاد من الحاكم.
يزيد الأمر صعوبة عندما يُعاير الإيرانيون البريطانيين بالأخلاق السياسية ودعمهم لنظام مستبد يضطهد الشيعة تحديدا في بلد ترى إيران أنها أحق بالوصاية عليه من الحاكم المحلي أو البريطانيين، في الوقت ذاته كانت شعلة حماس البحارنة لرفع مظالمهم وتحدي قوة عصا الفداوي تزيد وتيرتها وتحتمي بالرأي العام العالمي في الهند وغيرها.
هذا المشهد المتداخل بين معارك البريطانيين مع الحاكم في توزيع غنائم البلد وتخوف البريطانيين من الدعاية الإيرانية، في وقت تشتد فيه حماسة السكان الأصليين للخروج من مأزق الصراعات تلك، هو المشهد الذي كان يسيطر بعناصره على أسباب هبة 1923.
في منطقة البلاد القديم يقوم أحد الفداوية بضرب أحد المواطنين ضربا مبرحا حتى كاد يلفظ أنفاسه، يجتمع أهالي البلاد بفزعة كبيرة ويقلبون المشهد حتى صار الفداوي تحت أرجلهم وقبضاتهم كما في تقرير الوكالة البريطانية، لكنهم لم يصيروا إلى قتله، فالبحراني يخشى الدم لأنه أحد أكبر ضحايا الدم.
جدار الخوف تكسر والفداوي لم يعد يجيد استخدام عصا الحاكم وبطشه. في المنامة وقرب السوق المركزي حيث يجتمع المزارعون من القرى بشكل يومي لبيع محاصيلهم يقرر الأهالي إغلاق السوق والتوجه إلى رأس رمان مقر المعتمدية البريطانية لمنع المقيم البريطاني من دخول المعتمدية البريطانية فور قدومه من أبوشهر لزيارة البحرين. الاجتماع الحاشد أفقد حرس المعتمدية قدرة إدارة الحشود فهي المرة الأولى التي يحتشد فيها هذا العدد الضخم أمام المعتمدية بل هي المرة الأولى التي يقود فيها البحارنة أول مظاهرة سياسية سلمية بهذا العدد الضخم.
اضطر المقيم البريطاني أن يدخل المعتمدية عبر طريق خلفي ويشاهد الحشود كيف تنتفض وتطلب من الإدارة البريطانية وضع حد لحلفيهم الحاكم وإلا قلب الوضع على الجميع.
أدرك البريطانيون أن الأوضاع القديمة السائدة أصبحت وبالا على قاعدتهم السياسية المشهورة "الحفاظ على الأوضاع القائمة" وأن هذه الأوضاع القائمة تنذر بشرر لا يساوي حماية الحاكم العنيد والمرواغ. التقارير الاستخباراتية البريطانية فصلت كثيرا في طرق الحد من استبداد الحاكم ورأت أن كثير من المظالم إنما تحدث بسبب نفوذ وهيمنة زوجته عائشة وأبنه عبدالله الذي يطمح لتولي ولاية العهد بدلا من أخيه حمد.
وكعادة البريطانيين فهم لا يرون مظالم للناس بقدر ما يقدرون مسار مصالحهم وتسوية العقبات التي تحول دون تحقيقها.
وجد البريطانيون الفرصة سانحة للتخلص من الحاكم وتنفيذ خطة العزل وإعادة ترتيب شئون المشيخة المتهالكة كما فعلوا قبل خمسين عاما.
عبر مراسلات طويلة لم تكن حكومة الهند راضية بخطة العزل لأنها في النهاية ستعطي انطباعا بقدرة الحراك الشعبي على التأثير السياسي وهذا لا يمكن قبوله أيضا. في الوقت نفسه زادت حدة المواجهة بين المعتمد البريطاني وبين كل من الحاكم وزوجته وابنه عبدالله وهي الفرصة الوحيدة لكل من المقيم والمعتمد ليثبتا قدرتهما السياسية ويحسمان الصراع الداخلي بين الإدارة البريطانية في بوشهر وحكومة الهند.
القبائل والحزب السرّي المؤيد لسياسة عبدالله بن عيسى كان يستشعر الخطر أيضا وهو يمتلك تجربة في التأثير على القرار البريطاني عندما سعيا إلى استبدال المعتمد البريطاني السابق وظنوا أن عريضتهم هي التي أجبرت الإدارة البريطانية على استبدال المعتمد البريطاني السابق وجلب الميجر ديلي من العراق بدلا عنه.
لقد مرر البريطانيون هذا الوهم على القبائل وزعيم الحزب السري عبدالله بن عيسى الذي زار لندن في 1919 وطالب من هناك أن تتعامل الإدارة البريطانية مع والده كما تتعامل مع المشيخات المجاورة أي إعطائه قليلا من الاحترام والاستقلالية التي فرط فيها طوال خمسين عاما. لكنه رجع بخفي حنين كما يقال وأسس الحزب السري ليقاتل به الجماعات الشيعية المعارضة ولِيفتك بهم في قراهم.
في درس التاريخ من المهم مراجعة النصوص بتأني ومن خارج الإطار التي تفرضه إكراهات الأطراف المتخلفة. التحقيقات الجنائية التاريخية تمتلك من الأدوات ما من شأنه أن يكشف ما تخفيه الوثائق المعلنة، وهذا جهد تمكنت منه إحدى الدراسات التي أعادت قراءة مسار تلك الأحداث لتصل إلى نتيجة فظيعة لم تروها الكتب التاريخية بعد.
عشرات القتلى ومئات الجرحى كانوا ضحية الهجمات التي خطط لها الحزب السري بقيادة عبدالله بن عيسى وبتنفيذ بعض زعماء القبائل المتحالفين معه. قرى كثيرة تعرضت لما يمكن تسميته بمحاولة الإبادة الجماعية بتعبير القانون الجنائي الدولي. لم يتم انصاف هؤلاء قانونيا ولا تاريخيا إذ لا تزال قضيتهم عالقة بين وثائق الإرشيف البريطاني.
الجدول الذي أعدته (Staci Strobl) ضمن بحثها عن النظام القضائي في البحرين والطائفية، يوضح جزء من تلك الحقيقة الغائبة وهو كما يوضح بالسنوات وأعداد الضحايا حجم الإرهاب الذي تعرض له البحارنة عندما قرروا رفع الصوت والاحتجاج العلني على ما يتعرضون له من مظالم وتعديات تطال شرفهم وأعراضهم وممتلكاتهم.
لقد سعى البريطانيون وعلى رأسهم الميجر ديلي إلى تخفيف وطأة تلك الأحداث وفضاعتها لأنهم متورطون فيها بطريقة مباشرة وغير مباشرة، حتى الميجر ديلي الذي كتب أول تقرير مفصل عن الانتهاكات التي يشرف عليها عبدالله نجل الحاكم لم ترتقِ لأن تصنّف كجرائم جنائية فهي أخطاء إدارية يمكن تصحيح أوضاعها. هكذا كانت نظرة البريطانيين لما يعانيه السكان الأصليون من مظالم، والبريطانيون خبراء هذا الحقل ويعرفون كيف يحوّلون السكان الأصليين إلى رعايا قانونيين كما فعلوا في الهند، وكان من المقرر أن تتحول البحرين إلى إدارة بريطانية خالصة منذ 1912 عندما وضعت البحرين تحت الوصاية البريطانية المباشرة فيما سمى المرسوم الملكي للبحرين ( Bahrein Order in Council)
إزاء ذلك فقد دفع البحارنة ثمن الإصلاح الإداري الذي تريده بريطانيا والذي يحقق مصالحها لا مصالح السكان الأصليين، لقد تعاملت بريطانيا مع مظالم الشعب البحراني تعامل المحتل لا تعامل المنصف أو المنقذ كما فهم بعض الكتاب من تلك الإجراءات.
فهل وقع البحارنة ضحية الدهشة والتواطؤ؟ من السهل على قارئ الأرشيف البريطاني أن يقول ذلك لكن الحكاية التي لم تكتب تقول عكس ذلك فقد حقق البحارنة مطالبهم الأساسية التي انتفضوا من أجلها وتسبب حراكهم السياسي في ترشيد السياسة البريطانية الحقوقية على الأقل لأن البريطانيين كانوا في صدد تشكيل واقع سياسي جديد وتشكيل هويات سياسية جديدة ستكون مسؤولة عن حراك استمر 100 عام من انطلاقه.