» رأي
لعنة ميداس ورواية النظام
محمد حسن - 2012-10-16 - 12:57 م
محمد حسن*
تذكر الأساطير اليونانية قصتين لملك من ملوك الإغريق اسمه ميداس Midas، تتحدث الأولى عن موهبة قُدِّمت له من الآلهة بأن أعطته اللمسة الذهبية، كل ما كان يلمسه كان يتحول إلى ذهب، أعطاه ذلك القدرة على أن يكون أغنى الملوك، ولكن كل الذهب في العالم لم يعطه السعادة، فكان غير قادر على الأكل لأن الطعام الذي يلمسه يتحول إلى ذهب، بل تقول الأسطورة أن ميداس لمس أحد أبنائه فتحول إلى تمثال من ذهب فذهب إلى الآلهة يرجوهم أخذ تلك الموهبة التي أصبحت لعنة.
القصة الثانية التي ذُكر فيها ميداس كانت أنه كان يستمع إلى عزف إله وأحد أبناء الآلهة، وسألوه من كان الأفضل ولم يختر عزف الإله أبولو فعاقبه الإله بأن مسخ أذنيه لتشابه أذني الحمار، فكان يغطيها (بالطاقية) الإفرنجية خجلًا، ولم يكن يرفعها خوفًا من أن يرى ذلك أحد، لكنه كان مضطرًا إلى أن يحلق شعره بعد أن طال، فرفع الطاقية أمام حلاقه بعد أن هدده أنه لو أخبر أحدًا بذلك سيقتله. حاول الحلاق جاهدًا أن يخفي ذاك السر لكنّه أعياه وجعله خائفًا من التواصل مع أصدقائه خوفًا من زلة تفضحه. بعد أن فاض به الأمر ولم يعد قادرًا على إخفاء السر اتجه إلى تلّةٍ بعيدة عن المدينة وحفر حفرة فيها وصرخ "لدى ميداس أذني حمار" دون أن يسمعه أحد، لكن القصب الذي نبت على تلك التلة أصبح كلما هبت عليه ريح يصدر صوت الحلاق بنفس الجملة التي صرخ بها في الحفرة.
قبل أسبوع دُعيت للمشاركة في فعالية عن التحولات الثقافية التي صاحبت الربيع العربي، كانت الدعوة مفاجئة، أُبلغت بها قبل وقتٍ قصيرٍ جدًا ولم أكن أرغب فعلًا بالمشاركة لأنها تذكّرني بالفعاليات المملّة، التي كان بعض المثقفين ينظمونها في السنين التي سبقت الثورات، والتي مللتُ من حضورها بعد مشاهدة التغيير الثقافي الفعلي الذي قام به مجموعة من الشباب الذي يرفض الركون إلى المقاهي والصالونات الثقافية.
قرّرت قبول تلك الدعوة لأني احتجت لبعض الوقت لإعادة التفكير في التغير الذي مررت به في العام والنصف الماضي، ولأنها فرصة للقاء الكثير من الأصدقاء، المفاجأة كانت أنه فور دخولي إلى المركز الثقافي وجدت في وجهي صورة مألوفة جدًا على الإعلان الداعي للفعالية، كانت صورة لجدار في البحرين كتب عليه متظاهرون شعارات مناوئة ثم مسحتها قوات النظام وأعيدت الكتابة وأعيد المسح … وهكذا إلى أن أصبح الجدار مليئًا بعدّة ألوان وكلمات تبدو وكأنها تحاول كسر الأصباغ التي استخدمت لتغطيتها لتخرج للعلن برسالتها، حين سألتهم من أين حصلوا على الصورة قالوا أن أحد المشاركين (غير بحريني) مر بقرية بالقرب من المطار فرأى ذاك الجدار وقرر أن يلتقط الصورة ويجعلها كمثال على الكبت وغياب مساحات التعبير الحر.
قد يبدو للوهلة الأولى أن النظام قد أُسبغت عليه نعمة من آلهة النفط التي خصصت له مبلغ يقارب 10 أضعاف ميزانيته السنوية من أجل القضاء على المطالب الديمقراطية، لكن في الحقيقة هي لعنته التي تقض مضجعه، فبالرغم من أطنان الذهب إلا أنه لا يستطيع أي من رموز هذا النظام الذهاب إلى أي من قرى البحرين دون أن يرى الأصباغ على الجدران، والتي كأنها صنعت من دماء الجرحى، تحاول الخروج من الجدار والوصول إليه، أو دون أن تلاحقه أشباح القتلى وذكرياتهم. ذلك الذهب اشترى له من يستطيع الكذب ولكن لم يستطع شراء من يصدق تلك الكذبة، فأصبحت "شركات الإعلام التي يدفع لها الملايين كأنها تصنع طعامًا من ذهب، يدفع لها لتنتج طعامًا لا يمكن أكله، ولو حاول أن يمنعنا من الحديث عن شكل أذنيه فذلك لا يهم فعلًا، فجدران البحرين كقصب اليونان كلما مرت عليها ريح ستحمل معها الصوت ليسمع العالم كله صدى صرخات تطلق في الظلام كل ليلة وتقول "ارحل ارحل يا سفاح".
* ناشط ومدون بحريني