علي الجمري: قصة النبيه صالح

جزيرة النبيه صالح في البحرين (أرشيف)
جزيرة النبيه صالح في البحرين (أرشيف)

علي الجمري - مدونة Islander's Oasis الإنجليزية - 2022-08-29 - 1:16 م

ترجمة مرآة البحرين

للمرة الأولى منذ عدة سنوات، زرت البحرين هذا الصيف. في أحد الأيام، أجرينا جولة على المساجد التاريخية في الجزر، وزرنا مساجد الشيخ ميثم البحراني (في الماحوز) والأمير زيد بن صوحان (في المالكية) والشيخ أحمد بن سعادة الستري البحراني (في سترة)، وبالطبع، النبيه صالح. ويستحق كلّ من هذه الأماكن والشخصيات قصة خاصة.

في مسجد النبيه صالح، وهو يقع في الجزيرة التي تحمل الاسم نفسه، كنا محظوظين بلقاء القائم بأعمال المسجد. اصطحبنا في جولة في المكان، والقبور التاريخية الموجودة فيه، والصخرة التي نُقِشوا فيها، والأهم، هذا الكتيب الصغير: قصة النبيه صالح.

وُضِع هذا الكتيّب ليكون دليلًا لزائر المسجد وضريح النبيه صالح. ألّفه محمد بن علي الناصري (1919-1999) في العام 1987. وفي حال كنت تتابعني على منصة إنستجرام، قد تلاحظ أنّني كثيرًا ما أتحدث عن الناصري، الّذي أعتبره أحد أهم الشخصيات الأدبية في القرن العشرين في البحرين. كان محمد علي الناصري ملّا ( أي خطيبًا في السياق البحريني، ولا سيما في ما يختص بقصص أهل البيت) وشاعرًا. تتلمذ على يد جد جدي الملا عطية بن علي الجمري، أحد أهم الشعراء الدينيين لدى البحارنة، والذي أطلق نوعًا من الشعر العامي ما زال  شائعًا على نطاق واسع خلال المناسبات الدينية، وخاصة في شهر محرم، وأيام الحداد العشر في عاشوراء.

يُعَد الناصري شخصية أدبية أساسية لأعماله في توثيق الثقافة. عرض عدد العام الماضي من مجلة الأدب الفصلية ArabLit Quarterly: Folk  عمله، عملت بنفسي، في ما يخص الترجمات والمقالات، على مقالي بالإنجليزية ("Waddle Like a Duck ") وكذلك فعلت  روان مكي في مقالها ("Wat Rainbow")، مستندين إلى كتبه التي تجمع الشعر الشعبي البحريني.

للناصري كتبٌ تُوَثّق ثقافة البحرين والشعر الشعبي والنكات والأقوال الشعبية وغيرها. وكشاعر ديني، نراه في عدد من الأماكن. في اليوم الذي أجرينا فيه الجولة، صادفنا في البداية قصيدة للناصري معلقة فوق ضريح الشيخ ميثم البحراني، ثم صادفناه مجددًا في ضريح النبيه صالح. حبّه الكبير واحتفاؤه بالثقافة البحرينية والبحرانية على حد سواء يُكسبانه كل هذه الأهمية بعد عشرين عامًا [على وفاته].

النبيه صالح مقام ديني مهم للغاية في البحرين. كان في السابق جزيرة معزولة في شمال جزيرة سترة، وشرق جزيرة البحرين الرئيسة (أوال)، على الرغم من أن استصلاح الأراضي حولها إلى مناطق متجاورة. حتى خمسين عامًا مضت، ما كان بالإمكان الوصول إلى النبيه صالح إلا بالقارب. هناك القليل من الأشياء هنا، باستثناء الضريح.

قديمًا، تضمّنَتْ الجزيرة أيضًا بستانًا للتّمور وخُصِّصَت مبيعات منتجاته لصيانة السّفينة الّتي تنقل الزّوّار إلى الجزيرة. شكّلت موقعًا مهمًا للنساء الزّائرات أيضًا. واعتاد النّاس القدوم من أماكن بعيدة، آملين أن يُستجاب دعاؤهم في هذا المقام. لكنّ المأساة حلّت على جزيرة النبيه صالح: في الأربعينيات، انقلب قارب مكتظ بالنّساء والأطفال في الماء خلال الرّحلة القصيرة إلى الجزيرة، ولم ينجُ أيّ منهم. وتُوَثِّق قصيدة للملا عطية هذا الحدث، إذ يطالب البحر والريح وقبطان السّفينة بالإجابات عن المأساة الّتي كان بالإمكان تجنّبها- وهي قصيدة آمل أن أترجمها يومًا ما.

حتى هذا اليوم، لا يزال الزّوار يؤمون جزيرة النبيه صالح، ومن الملفت عدد غير المسلمين بينهم - حين زرنا المقام، كان هناك رجلان هنديان يزورانه باحترام، وكثيرًا ما يقصده أشخاص من كل الدّيانات لتقديم احترامهم للنبيه صالح.

بناء على طلب حسين البصري، وهو القائم بأعمال الضريح، ترجمتُ القسمين الأوّلين من كُتَيّب الناصري. النص الأصلي يفوق نصي في طوله، وفيه قصيدتان، وبعض التوصيفات لبعض الأضرحة المهمة الأخرى، وتفاصيلَ عن بناء الضريح. لكن إليكم الجزء الأكثر أهمية.

تابعوا القراءة للاطلاع على قصة جزيرة النبيه صالح، والرّجل الّذي أُطلِق اسمه عليها. 

1. جزيرة النبيه صالح

كانت جزيرة (أكل) بضم الألف والكاف وسكون اللام سابقًا والنبيه صالح حاليًا محط آمال الكثير من الناس، منهم الحكام والعلماء كما جاء في تاريخها القديم، أما الحكام، فلما كانت عليه من التربة الخصبة والينابيع العذبة الكثيرة، والزراعة من النخيل والأشجار المتنوعة الوفيرة، وذلك لحصول فوائد الغلة. وأما العلماء، فلانعِزالها عن الضوضاء من تكاثف السكان وما يترتب على ذلك، بحيث أنّ التهام العلم والتفكير فيه يحتاج إلى الجو الهادئ. وللأمر الأخير، مرّ عليها ردح من الزمن وفيها سوق العلم رائج، وللعلماء داخل إليها وخارج، من القرى المجاورة إليها مثل الماحوز، وتوبلي، وجزيرة سترة وغيرها، حتى نبغ الكثير في روضتها واشتهر في ساحة فنون العلم منهم الأفاضل، مثل الشيخ أحمد المتوج صاحب المؤلفات الكثيرة والجليلة المتوفى (850) هـ أو (830) هـ والقرن الخامس عشر الميلادي، والشيخ داوود بن حسن الجزيري البحراني، ومدرسته ومكان راحته قريبان من مسجد النبيه صالح، الذي ذُكِر في كتاب "أنوار البدرين": "وقد كتب كتبًا كثيرة بيده المباركة وأوقفها مع كتب كثيرة بخطه وخط غيره يقرب من أربعمائة كتاب في المدرسة التي بناها في بيته بالجزيرة".

أحد كتب الشيخ داوود، وهو "ترتيب المعاني"، والذي ألّفه في القرن العاشر الهجري (أي القرن السادس عشر الميلادي)،  وُجِدَ في (سورت) مرفأ الهند سابقًا.

عدد قبور العلماء الموجودة في هذه الجزيرة الصغيرة الحجم كبير جدًا، مثل قبر الشيخ عبد الله المتوج، والشيخ داوود، وابنه الشيخ علي. وهم أهل القبور في الحجرة الكائنة شمال مدفن النبيه صالح. وتاج هذه القبور الحرم العظيم الذي شُيِّد من جديد، وقد رسا على أرضها كالطود الشامخ، وهو باسم العبد الصالح، وأعني به النبيه صالح، الذي شرق وغرب صيته، وأصبح مزارًا للقريب والبعيد من أهل الخليج.

2. قصة النبيه صالح

حصلت القصة كالتالي: الشيخ صالح النبيه، الذي يكون قبره في جزيرة (أكل)، كان يصلي صلاة الجماعة خلف أحد العلماء في عصره في الجزيرة نفسها، وكان يحضر صلاة المغرب والعشاء وصلاة الصبح فقط دون الظهر والعصر.

فجاءت في ذات يوم من الأيام زوجته وشكته عند العالم، وقالت: "إنه يخرج من المنزل ليلًا وبعد العتمة ولا يعود إلا بعد صلاة الصبح في ثلاث ليال في الأسبوع، ولا أعلم أين يذهب طول ليلته. وإذا قلت له في ذلك، يلزم الصمت ولا يرد على سؤالي". فأوعدَها العالم خيرًا.

فلما انتهى من الصلاة ليلًا، استدعى الشيخ صالح وأخبره بمقالة زوجته وأنها تشتكيه عنده، ثم قال له: "وإنك تعلم أنّ لها الحق في ذلك، إلا إذا كانت لك زوجة غيرها". فلم يردّ جوابًا.

فلما كان وقت خروجه من بيته ليلًا، وقفت زوجته أمامه وقالت: ألا تمتثل لأمر العالم وتترك الخروج أو تخبرني عن سبب غيابك؟ فلم يجبها وخرج، فجاءت إلى العالم في اليوم الثاني وأخبرته، وبعد الصلاة ليلًا، أحضره وأعاد عليه السؤال ثم قال له: "وأنت غير جاهل بما يترتب عليك من الجزاء شرعًا"، هذا والشيخ صالح مطأطئ رأسه وهو ساكت. وفي المرة الثالثة، هدّده على عدم الامتثال وعلى سكوته، فلما رجع العالم إلى منزله، أخذ يفكر ويتساءل عن معنى إصرار  الشيخ صالح على مواصلة خروجه من منزله وعلى سكوته عند السؤال، ثم قال لعله يعمل شيئًا لا يريد إطلاع زوجته عليه.

فلما أصبح، استدعى زوجة الشيخ صالح وسألها: "في أي ليلة اعتاد الخروج؟"  فأخبرته، فوقف العالم في مكان بحيث يرى ولا يراه أحد، فجاء الشيخ صالح على عادته، وهو لا يعلم، حتى دخل في المسجد الذي يكون غربًا من الجزيرة، وموقعه على ساحل البحر، ويُعرَف عند أهل الجزيرة مسجد الغبة، فصلى ركعتين لاستجابة الدعاء، ثم فرش إزاره على وجه ماء البحر وعبر عليه، ففعل العالم مثله وتبعه هو الآخر على الإزار والشيخ صالح لم يشعر به، حتى وصل إلى الساحل الشرقي من توبلي عند قرية جد علي، فلما صار على اليابسة خرج وأخذ إزاره ونفضه ووضعه على كتفه والعالم يتبعه ويفعل مثله، حتى جاء الشيخ صالح إلى المسجد المعروف مسجد الحرم، وهو أحد المساجد السبعة التي كانت قبلتها من إرشاد أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع) في عهد خلافته. وإذا بحلقة من العلماء جلوس ينتظرونه، وبمجرد أن رأوه تباشروا وقالوا: "جاء الشيخ، جاء الشيخ". ثم قالوا له: "يا شيخنا لقد أبطأت علينا هذه الليلة؟" فقال لهم: "لشغل بدا لي". هذا والعالم يرى ويسمع كل ذلك من حيث لا يراه أحد، ثم تقدم الشيخ صالح وأخذ يلقي على الجماعة بحثًا علميًا فوق مستوى العالم، فوقف يسمع حتى قرب وقت صلاة الليل، فقام الشيخ صالح ومن معه وتهيؤوا للصلاة، فعند ذلك رجع العالم إلى الجزيرة على الطريقة الأولى، وقد أكبر الشيخ صالح وعظم في عينه، وداخَلَه النّدم على ما فعله من التأنيب والتهديد للشيخ صالح.

فلما جاء وقت صلاة الصبح، وحضر العالم المسجد وأذّن المؤذن للإعلان، والعالم جالس ينتظر، فقال له الجماعة في ذلك، فسألهم عن الشيخ صالح، فقالوا: "لم يحضر بعد"، قال: "ننتظره"، فلما جاء أخبروه، فدعاه، وقال له: "تقدم وصلّ بنا"، فأبى وتواضع أمام العالم وقال: "لا يجوز لي أن أتقدم شيخنا في الصلاة"، فقال له: "بل أنت كفؤ لذلك، وإني كنت معك في الليلة الماضية من أولها حتى الأخير"، فلما سمع، فتح عينيه مبتهرًا وقال: "اطلعت على كل شيء من أمري؟"، قال: "نعم"، قال: "ومع هذا، فالصلاة إنما أُقيمَت لكم"، فأعاد العالم الطلب، فلما ألح عليه، قال الشيخ صالح: "إذا كان ولا بد، فأنا أصلي، (وهمس في أذن العالم)، ولكن إذا فرغت من الصلاة، لا تبرح حتى تجهزني أنت وأصحابك"، فابتهرَ العالم من هذا الكلام وقال له: "وكيف؟" قال: "لا عليك"، ثم أوصاه بما أراد، فلما صلى دعا الله في سجدة الشكر أن يقبض روحه، ولما أطال سجوده حركوه وإذا هو ميت. فقاموا في تجهيزه ومشى العالم في تشييعه بكل تبجيل وإكبار، وقد أظهر الحزن والتفجع، ودفنوه في محل قبره الآن، وأعلن العالم الخسارة الفادحة في فقده، ولما سُئِل عن ذلك، أخبر عن علمه ونوّه بفضله، ونصب له الفاتحة، وتصدر المجلس واستقبل المعزين، وشاع خبر اعتناء العالم بشأنه. وانتشر خبره في القرى والمدن من البحرين، وأخذت تَفِد الزوار وأهل النذور إلى مرقده الشريف. وأُرِّخ ذلك في العام 1191 هـ (1777/1778 م). 

ملاحظة المترجم: 

تاريخيًا، يمتلك للضريح في الجزيرة والشخص الذي أُطلِق اسمه عليها اسمين. الاسم الأول هو النبي صالح، وقد أُطلِق عليه هذا اللّقب لمكانته الكبيرة كرجل دين، لكن أتباعه لم يعتقدوا أبدًا أنه نبي فعلي، إذ إنّ جميع المسلمين يؤمنون بأنّ النبي محمد (ص) هو خاتم الأنبياء. وعُدّل هذا الاسم في القرن العشرين إلى النبيه صالح. 

النص الأصلي