الدكتور محسن الكندي: أفِقْ يا سيدَ الشعراء

الدكتور محسن الكندي
الدكتور محسن الكندي

2019-07-03 - 12:58 ص

لم أر الشاعر الكبير الصديق غازي الحداد منذ أكثر من ثلاثين عاماً، لكن صورته لم تغب عن ذاكرتي مذ أن كُنا على مقاعدِ الدراسةِ بكلية البحرين الجامعية في أواسط الثمانينات من القرن العشرين.. لم يكن صوته بغريبٍ عليّ وهو يحدّثني ويشنّف سمعي بصوته الجهوري الصادح في مثل هذا اليوم من العام المنصرم (30 يونيو 2018 م) ليعيد إليًّ ذكرى علاقة باعَدَتْ بينها الأيامُ وفرّقتها الليالي، فلم تزدها إلا رباطاً وارتباطاً.

 كنتُ طيلةَ هذه السنوات - التي مرَّت مرورَ البرقِ - أقرأ لغازي وأستمعُ لروائعه التي كانت تَصِلُني عبر أصدقائنا المشتَركين، فتهُزني من أعماقي وأحملُها زاداً ذوقياً من بلدٍ عاش فينا وشغفنا حُبَّاً نحن العُمانيين، فلم نكد نذكره إلا بأجمل قصائد الشعراءِ وأروعِ لوحات الفنانين.. كيف لا؟! والبلد صاحب المجد السامق الراسخ في أرض الحضارات التليدة.. إنه البحرين التي قال فيها شاعرُنا العُماني الأستاذ عبدالله الطائي حينما كان ذات يوم يعيش في أرضها:

ويا أيّها الطيارُ سرّ مُسْرعَاً ففي          فؤاديَ للبحرين ألف هوى نمَا

إذا مَا تناءلتْ معشراً ومنازلاً              ففي القلبِ ينبوعٌ لعَهدٍ تصرَّما

بلهفةِ الصديق إلى صديقه زادت علاقتي بغازي الحداد بعد ذلك الاتصال بفعل وسائل التواصل الحديثة، فأصبحتُ أعرفُ عنه الكثير مما لم أعرف طيلة تلك السنوات العِجَاف كلّها، وأخذ هو الآخر يُصَبِّحُني بقصيدةٍ ويُمَسيني بأخرى كأنبل ما يفعلُ الشعراءُ تجاه من يألفوهم ويحبُّونهم. وفي المقابل شُغفتُ أنا الآخر بشعره فحملتُه بين دفاتري وحقائب أسفاري بل وفي محفظتي الجامعية؛ لأقرأه منذ بدايات الصباح على طلبتي بقسم اللغة العربية بجامعة السلطان قابوس، فيزيدهم إعجاباً وتهتزُّ له عمائمهم ولحاهم، فليس أنبلَ أن تقرأ لشاعرٍ متألق تسرُّك معرفته.. وبينك وبينه مآرب أخرى.

 لقد كانت تلك القصائد التي يرسلها غازي لي فلذة كبده ومنتهى أمله، فينتشي ويطرقُ فرَحاً بقُرّائه ومتابعيه، ولطالما كانتْ تعليقاته نشوى عندما أُرسل له رودَ فعلِ من قرأها فيحملُ لعُمان وأهلها حُبَّاً وإعجاباً متناهياً.

عرفتُ غازي الحداد في الزمن الجميل حينما كنا نعاقرُ كؤوس التألق والصحة والشباب في تلك الكلية الملأى بالمتغيرات، فبين زمن البراءة، وبين تحولاتها عهودٌ ممتدة إلى محطات كثيرة عرفنا فيها أُنَاسَاً تقاسمتهم مِللٌ ونِحلٌ وأفكارٌ وسجالات، فبين متزمّتٍ إلى منفتح، وبين تقدُّميٍّ ورجعي، وبين ليبراليٍّ يساري، وبين قومي النزعة وإسلامي الهوى؛ علائق ظلت محور نقاشاتنا التي لا نعرف لها حدوداً إلا حدود الاحترام والتقدير لكل من تبناها.. تحولاتٌ كانت تعجُّ بها كلية البحرين الجامعية في تلك الأيام الخوالي، ونحن نسيرُ ببراءة وسَطَها في معمعةِ سفينةٍ لا ندري إلى أين يَحْملُنا مِحْملها، أو إلى أين سيحطُّ بنا مرسَاها، إلى أن تخرَّجنا فأصبحنا نميّز خيوط النور من خيوط الظلام، ويا لها من جدلية!

 كان غازي وسطنا هو الفيلسوف الحكيم الذي كان يبصّرنا بمآلنا ونحن نحتسي أكوابَ شاي الظهيرة كل يوم في "كافتيريا" الكلية وبين رحاب طرقاتها الأُرجوانية الحلزونية التي يلتقي فيها الساقُ بالساق فنرى فيه الشاعر الفيلسوف العميق المختلف في تفكيره بل حتى في هيئته ولمحات وجه ونبرات صوته الحاد الأجش وعيناه التي تحملُ ألف معنى ومعنى ... إنها شخصية غازي وما أدراك ما غازي ؟ !.

عرَّفني صديقي محمد أحمد البنكي (رحمه الله) بغازي لأول مرة، وأرشدني إلى حسِّه الشعريِّ، فطلبتُ منه أن يكتبَ في مجلتنا الطلابية "المزون" التي كنت أحد محرريها، فوعدني دون قطعٍ حتى لا يقعُ في مغبة الالتزام بخطابات رسمية منذ أول الطريق، وقال من أين تصدر هذه المجلة، قلت له من جهة ما، وهي مجلةٌ طلابيةٌ لا غير، ولكنه لم يقتنع، فاحترمت رأيه، وعرفتُ أن الرجلَ ليس بالشاعر المبتدئ الذي يريدُ أن يمارسَ جذوة الشعر من على منبرٍ طلابيٍّ بسيطٍ، فينشر في صحافة الطلبة، وإنما يريدُ أن يخرجَ خطابه من منابر دينية أو سياسية مرموقة تناسب مقامه، فقد مرسَهُ الشعرُ ومارسه بحذقِ الشعراء ومرام المبدعين، فأصبح شاعراً يُشارُ إليه بالبنانِ في وطنه البحرين وفي بلدان أخرى على نحو ما استمعت إليه عبر أثير إذاعاتها ووسائل بثها.

انقطعت علاقتي بغازي لسنواتٍ عديدة لظروف عدة، فقد شغلتنا الدنيا وهمنا فيها على وجوهنا كلٌّ في طريقه، ورغم ذلك بقي سؤال الودِّ عالقاً في أذهاننا كلما التقينا بأحدٍ من أترابنا ونظائرنا من وجوه تلك المرحلة الوردية، واليوم حين استذكر اسم غازي الحداد فإنما استذكر عهداً وزمناً عرفنا فيه البحرين وأهلها ومنتدياتها ورجالها ومجالسها وطرقاتها ورحابها، استذكر قامات الشعر والأدب والثقافة والفكر، أستذكرُ أخوة وزملاءَ هم الصفوة الأخيار والأستاذة الفضلاء ، فكم لنا في البحرين من قاماتٍ حفرت في وجداننا ومخيلتنا صورَ الجمال لم يطالها الزمن، ولم يستطع محوها من ذاكرتنا، وقد تربّع على صدارتها اسم غازي الحداد الشاعرالجميل مع محمد البنكي الناقد الحاذق، وغسان الشهابي الصحافي البارع، وسالم رجب الناشط الكشفي، وجلال المبارك التربوي المربي، وسمير نور الدين، وعادل السيد، ومنصور العالي، وجعفر مهدي، وسواهم من الثلة الأولين والنخبة الآخرين من إخوانِ الصفا وخلان الوفاء كما يقال.

 هكذا ظل قلبي يلهجُ باسم البحرين واسم من عرفته فيها، وهكذا ظل حبل الوصال ممتداً عبر زياراتٍ متواترة أحلُّ فيها ضيفاً على زملائي وأقاربي، ومع ذلك لم أحظ بلقاء غازي ولا رؤيته إلا في هذا المقام المؤلم الذي آمل ألا يكون حزيناً بل مُشرقا ببشرى صحته وعافيته ودوامه لبلده ووطنه وعروبته.

 كانت مسارات شعر غازي الحداد تتراءى لي عبر كل كل قراءة موضوعية مفعمة برؤى مذهبية بحتة فقد أخلص لهدفه وسخر طاقاته له، ومع ذلك لم تنغلق تجربته على فضاء خصوصيتها بل خامرتها رؤى إنسانية تصفح بالحيرة والسؤال الإنساني الباحث دوماً عن الحرية والثورة والتغيير، ولعل واقعه الذي لم يستطع تحمله ظل على الدوام محركاً ورافداً لشعره يستقي منه أعذب الكلمات وأضفى العبارات ليرسم أجمل اللوحات الفنية بما أوتي من موهبة في الإتيان بروائع الكلم ونحت المكونات الدالة والمدلولة.. إنها جبلته الشعرية وديدنه حينما يحلق في فضاء القصيدة فيهيم بها هيماناً يجعله يختلي في بين حنايا ذاته في ضرب من ضروب المعاناة أليس ميلاد القصيدة معاناة .   

 لم يستطع قلب غازي المرهف بأن يتحمل صدمات الواقع وقسوته، فسقط في محطة فاصلة من حياتنا العربية والإسلامية، لم يستطع أن يتحمل إغواءات السياسة وغوايات الموقف العربي الوضيع، فقد كانت سقطته في مرحلة مفصلية هزته فيها (رقصاتهم)على طاولة الورشة المشؤومة، فلم يستطع مقاومة الموقف فكأن شيطان شعره أخطى طريقه فيه، فأصاب قلبه المرهف وأوقفه عن النبض، فرقد في مشفى العافية معافى بإذن الله ...

 اليوم حين يؤلمنا القدرُ بما حدث لصديقنا الحبيب الأستاذ غازي، وبعد ثلاثين عاماً من لقائه الأخير، تتدافع الكلمات في فمي، وأنا لا أحمل عباءة الواعظ، ولا محبرة المعلم، ولا حكمة الفيلسوف، وإنما أحملُ قلباً طاهراً ولساناً متضرعاً يدعو له بالشفاءِ والحياة، وأن يعيده إلينا شاعراً وإنساناً نبيلاً أعطى لمؤسسة الشعر العربي خطاباً يُضاهي خطاباته الكُبرى في البحرين وغيرها، يُضاهي عمالقة الشعر العربي أقدمين ومحدثين، يُضاهي الشريف الرضي والجواهري وإبراهيم العريّض وبدوي الجبل وأبي مسلم البهلاني وعبدالله الخليلي وغيرهم من عمالقة القصيدة الكلاسيكية التي تبنَّاها غازي وأخلص لها، مع فارق بيّنٍ بينه وبينهم في الرؤية والرؤيا والتشكيل. ونحن في عُمان ممتنون لتواصلنا مع هذا الشاعر الصديق الذي أحبَّ عُمان وأهلها ولطالما أرسل لي مقاطع مفعمةً بهذا الحبِّ الناصع كالثلج القادم من قلب لا يحبّ إلا الخير والسلام والبراءة والطهر والنقاء ويا لها من مبادئ سامية وغايات كريمة. فشفاك الله يا أبا ناصر، وفدتك نفسي من المُلِمِّ العارضِ كما يُقال... وإنها - كما قلت في آخر قصيدة بعثتها إليَّ قبل إصابتك بأيامٍ قلائل، وكأنّك تشخّص فيها ما قد حصل لك وتقرأ فيها واقع حالك - فكم كانت حاستك الشعرية تستشرفُ ذاتك المفعمة بالألم والراضية بالقدر المحتوم الذي لا راد له إلا الله:

كذبَ الوعدُ على ميعادِنا        ووفىَ الغدرُ بأحلامِ المُنى

وتطرَّفنا على جُرفِ الهَوَى      فهوينا وهوَى الشوقُ بِنَا

ومضَى العمرُ كيومٍ عاصفٍ      تتهادَى فيه أغصانُ الفَنا

أو سَرابٌ مستبدٍ طيفُه      يرصدُ الآجالَ عند المُنحَنَى

فتعانقنا كنخلٍ ذابلٍ                ما تَدلَى منه ظِلٌ أو جَنَى

وبنا الأقدارُ تقضيْ حُكمَهَا      لا أَنا أَنتَ، ولا أَنتَ أنا

  

* أستاذ الأدب الحديث بجامعة قابوس