» رأي
الاستقلال واليــوم المكـذوب
فيصل المالكي - 2012-08-06 - 4:17 م
فيصل المالكي *
تحتفل معظم دول العالم سنوياً بأعياد استقلالها وتعتبرها محطة لاستذكار جرائم الاحتلال من سلبه لثرواتها والتنكيل بناسها، إلى نشره سياسة التمييز بين مكونات شعوبها، ثم تمر على بطولات من ذادوا عن حياض الوطن، وبذلوا النَّفْسَ والنفيس لرفعته ونهضته، فتقف إجلالاً على أرواحهم.. هكذا على الأقل في البلدان التي تفهم معاني الاستقلال وتجعل منه قنطرة تتواصل عبرها ذاكرة الأجيال.
وبالتأكيد هناك من الدول لا يهمها كل تلك المعاني، ولا تفهم من العيد الوطني سوى اعتلاء حاكمها كرسي الحكم؛ لأن هذا الاعتلاء بالنسبة له هو انطلاقة الدولة نحو الرقي والحضارة، ومن دونه فلا بلاد ولا عباد.
البحرين.. أين موقعها من ذاك التصنيف؟
انتهى الاحتلال البريطاني من الخليج تدريجياً على إثْر قرار اتخذته الحكومة العمالية سنة 1968م ؛ لعدة أسباب منها: الثورات التي انطلقت في هذا الإقليم، وتكاليف الاحتلال التي أصبحت باهظة على بريطانيا، كما أنه لم يعد الخليج بذات الأهمية لها، حيث كان طريقاً لمستعمراتها في الهند بعد أن حصلت الأخيرة على استقلالها في 1947م.
وكان نصيب البحرين من ذلك التأريخ المجيد هو الرابع عشر من أغسطس 1971م، ولكن للأسف الشديد عمد النظام إلى استبدال ذلك التأريخ بالسادس عشر من ديسمبر من كل عام، بحجة جمع مناسبتين معاً: الاستقلال وتولي عيسى بن سلمان آل خليفة مقاليد الحكم. وعجبي كيف يستبدل ثابت بمتغير، فأين عيسى بن سلمان الآن! ولماذا يواصل النظام في كذبته برغم أن جلوس من تلاه -وهو ابنه حمد بن عيسى على كرسي الحكم- كان في مارس 1999م!
إن ما أقدم عليه النظام جعل مناسبة الاستقلال مهمشة وغلبت عليها مناسبة الجلوس وبالتالي طغت الاحتفالية بالثانية على الأولى؛ لذلك لن تجد في 16ديسمبر أحداً يذكرك بأمجاد نضال البحرينيين وتضحياتهم ضد الاحتلال البريطاني، بل كل ما ستراه هو احتفالات هابطة جوفاء لا معاني لها، وأقصى ما تركز عليه هو تقديم التهاني للأسرة الحاكمة، وقيام الإعلام الرسمي بالطنطنة لأمجادها وتعداد منجزاتها بحسب زعمه، ولعمري لا أعرف دولة أقدمت على مسخ ذاكرة شعبها بتغيير يوم استقلالها كما فعله النظام في وطني.
لكني لا أستغرب سلبية حكام آل خليفة من يوم الاستقلال الحقيقي؛ لأن هذا الحكم لم يساهم يوماً لا بالمال ولا بالأرواح في سبيل تحرير الوطن، ولم يسجل التأريخ اسماً واحداً من العائلة الحاكمة حمل سلاحاً لتحريره، بل لا مبالغة إذا قلنا أنه لم يكن آل خليفة راغبين حتى في خروج المحتل، فبحسب المصادر "فإن حزب المحافظين البريطاني (ممثل المعارضة حين اتخذ العماليون القرار المشار إليه آنفاً) حاول العدول عن الانسحاب عندما تسلم السلطة عام 1970م، وزار أحد أعضائه وهو السير ألس دوكلاس هوم (Alec Douglas Home) المنطقة مبتدئاً بإيران بغرض الوقوف على آراء رؤساء دول منطقة الخليج حول إمكانية العدول، لكن الدول الكبيرة في الخليج طلبت من بريطانيا الالتزام بتعهداتها السابقة، أما بالنسبة للدول الصغيرة –والبحرين بالتأكيد ليست من الدول الكبيرة- فإنها ترددت في إبداء رغبتها وذلك نابع من إدراكها بأن هذه القوة ستكون إحدى ركائز الأمن والاستقرار في هذه المنطقة".(1)
كما وجدت وصفاً دقيقاً صريحاً ذكره الأستاذ عبد الرحمن الباكر لذات المعنى حيث يقول: "أما نظام الحكم في البحرين فهو حكم قبلي إقطاعي تسنده قوى الاستعمار البريطانية الغاشمة ومعناه أن الشعب ليس إلا عبد ذليل يأمره حكامه والإنجليز وعليه السمع والطاعة لهم"(2)
وأكرر ثانية أنني لا أستغرب تمسك آل خليفة بالاحتلال البريطاني، فكيف لا يتمسكون وهم يعتقدون أن رحيله يعني انكشاف ظهورهم للبحرينيين الذين كانوا ضحايا ظلمهم وعدوانهم، مما يجعل وجوده في قناعتهم صمام أمان لهم ولعرشهم!
وهذه الصورة التاريخية يمكن تقريبها بصورة أخرى مقاربة حدثت قبل بضعة أشهر وعايشها الجميع، عندما أشيع أن الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن مقر بديل لأسطولها الخامس الموجود في البحرين وكيف انتاب النظام قلق جرَّاء ما أشيع. ولا غرابة.. فمن يعتمد في أجهزته الأمنية جهاراً نهاراً دون خجل، على المرتزقة بدرجة أساسية لا نستغرب منه أن يكون منسجماً ومتحالفاً مع الاحتلال وكارهاً لخروجه.
في كل الأحوال فإن أحداً لم يكن يفرق يوماً بين نظام آل خليفة وحكومة الاحتلال البريطاني، بل يمكن القول إن الأخير لمَّا حل محتلاً على بلدنا وجد نفسه محظوظاً بحصوله على أسرة حاكمة تكره شعبها كرهاً أعمى، وأنه لهول ذاك الكره قام الاحتلال نفسه بضرب يد هذه الأسرة في مواطن عديدة للحد من الإسراف في ظلم الشعب البحريني، ويمكن مراجعة كتب التاريخ المنصفة التي تؤرخ لتلك الحقبة. ولكي لا يبنى هذا المقال على كثرة الاقتباس أشير إلى واحد منها وهو كتاب (الأوضاع السياسية في البحرين) للأستاذ عبد الرحمن الباكر، وليسمح لي القارئ بإطالة الاقتباس دون تصرف لأهميته ولأنه من لدن خبير.
يقول الباكر: "وكان من الإصلاحات التي أدخلها المعتمد البريطاني للقرب إلى الشعب، إلغاء قانون السخرة التي كانت جارية في ذلك الوقت، ووضع قانون لمصلحة الغواصين وكف يد الأسرة الحاكمة وغلمانهم عن اضطهاد الشعب ونهب أمواله علانية، إذ كانوا في السابق لا يكفيهم ما يفرضوه على أبناء البلاد من الضرائب الفادحة، وما يرهقوا الشعب به من الأتاوات الظالمة، وما أنزلوه بالناس من ضروب الطغيان وألوان الاستبداد والهتك بالأعراض وإزهاق الأرواح، حتى استولوا على أملاك الناس وصادروا أرزاقهم وانتهبوا بساتينهم ومزارعهم، حتى تقاسموا القرى فيما بينهم بصورة إقطاعية بشعة لم ير التاريخ مثيلاً لها، فكانوا يملكون القرية ومن عليها من رجال ونساء وأطفال وحيوان ونبات، وكان أي عبد من عبيدهم يأتي إلى السوق ويجمع أعيان البلاد وكبارها ثم يدفعهم أمامه كالأغنام ليسخرهم في إنزال سفينته إلى البحر، وإذا أراد أحدهم قضاء حاجته في السوق يقف أمام دكان أي بائع ويقول له إن عصاي تريد كذا رطلاً من السكر وكذا مقداراً من الأرز والشاي وما على البائع إلا أن يقدم ما تطلبه العصا وإلا هوت تلك العصا الآثمة على أم رأسه"(3)
لقد رحل الاحتلال البريطاني ولم تكتمل فرحة الشعب البحريني برحيله، فمن جانب أبقت بريطانيا سلطتها على إدارة الأجهزة الأمنية القمعية، ومن جانب ثان لم يكتمل حلم الشعب بتشكيل حكومته الوطنية التي ينتخبها انتخاباً حراً مباشراً لا يشوبه أي شكل من أشكال التزوير؛ لممانعة النظام الخليفي الحاكم ذلك برغم تعهداته به، ومن جانب ثالث فلأن رحيل بريطانيا جعل من الولايات المتحدة الأمريكية قوة ملء الفراغ الاستعماري البديل في المنطقة وبالسرعة القصوى، ثم سلكت الأخيرة ذات المسلك الإنجليزي وهو دعم الديكتاتوريات في المنطقة، ومن شذَّ عن التحالف معها يدفع ضريبة استقلاله وحريته بالعداء الدائم من قبلها وحلفائها من الأعراب.
* كاتب من البحرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تطور الإستراتيجية الأمريكية في الخليج العربي- د. فؤاد شهاب-طبعة 1994م- الفصل الثاني: ردود فعل دول الخليج من قرار بريطانيا بالانسحاب- ص 39 (بتصرف).
(2)الأوضاع السياسية في البحرين والأحداث الأخيرة فيها-محاضرة للأستاذ عبد الرحمن الباكر سكرتير الاتحاد الوطني بالبحرين-مطابع دار الكتاب العربي بمصر محمد حلمي المنياوي- ص13 .
(3)المصدر السابق ص 30-31.