رهين العهديْن: حمد وأبيه

يبدو السجن في عهد عيسى بن سلمان مجرّد نزهة مقارنة مع عهد الملك حمد (ع. م)
يبدو السجن في عهد عيسى بن سلمان مجرّد نزهة مقارنة مع عهد الملك حمد (ع. م)

2019-03-08 - 12:27 م

قضى "ع. م" خمس سنوات في زنزانة بسجن "جوّ" المركزي خلال  أحداث التسعينات بينما كان في أوّليات شبابه. وها هو قد عاد إليه مرّة أخرى كي يقضي حكماً آخر بالسجن المؤبّد في الوقت الذي ذرّف عمره على الأربعين. في هذا المقال يروي شهادته على تحوّلات السّجن بين عهدين... عهد الملك حمد بن عيسى آل خليفة وعهد أبيه الأمير عيسى بن سلمان آل خليفة، ورؤيته لكلٍّ منهما.

ع. م*

"لم يبق عنديَّ ما يبتزّهُ الألمُ/ حَسبي من الموحشاتِ الهمُّ والهرَمُ". تذكرت بيت الشعر هذا للشاعر محمد مهدي الجواهري وأنا أهمّ بإمساك القلم كي ألبّي طلبكم مني كتابة رأي في عقدين من حكم [الملك] حمد [بن عيسى آل خليفة].

تصورت أنّي أخاطب به هذا الملك الذي حرمني من كل شيء، وأخذ من حياتي وعمري الكثير، "لم يبق عنديّ ما يبتزه الألمُ".

حينما أصبح حمد بن عيسى آل خليفة أميراً للبلاد (6 مارس/ آذار العام 1999) كنت آنئذ أقبع سجينًا في سجن "جوّ المركزي". في ذلك الوقت كانت قد مرّت خمس سنين عليّ وأنا سجين أول شبابي، واليوم بعد عشرين عاماً، فقد مضت الآن خمس سنين أخرى تقريباً من حكم بالسجن المؤبد صدر بحقّي،  وقد دخلت الأربعين من العمر.

في هذه اللحظات، أتذكر خروجنا في العفو العام 2001، وبعدها خداعه لأكبر رجالات البحرين. لقد خدعهم جميعاً وكذب عليهم، بل جعلهم لا يجرؤون على إعلان إلا ما يؤكّد  تصديقهم له؛ حتى لو كانت تنتابهم الشكوك، هكذا كانت براعته، وهكذا كان فشلهم.

لننظر الآن بعد عشرين عاماً، ها هو قد جمع كل من صدّقوه من جديد داخل السجن، وشرّد البقية. وأما من لم يسجن ولم يهرب خارج البلاد، فإنّه قطع لسانه بيديه. بل إن بعضهم، برأيي، قد تخلى عن مروءته، كي يستطيع العيش، العيش فقط تحت حكم طاغية يجرّعه المرار كلّ يوم.

كلّ أملي الآن أن أنال الحرية ووالدتي لا تزال على قيد الحياة. أعرف أنّ  رحيلها، لا سمح الله، لو حصل وأنا قعيد هذه الزنزانات، سوف يدمّر كل شيء في داخلي إلى الأبد! أملي أن ألمس أطفالي بيديّ وأحتضنهم، فقد مرت سنوات وأنا  ممنوع من رؤيتهم إلا من خلف الحاجز الزجاجي، لقد نسيت كيف هو ملمس أطفالي.

قبل أسابيع توفي والد معتقل معنا محكوم بالسجن المؤبد. مات أبوه بحسرته على ابن ناجح، كان مُعَلمًا متميزاً. في زنزانتي التي أقبع، هناك شاب صغير مسجون هنا قبلي، لقد نبت شاربه ولحيته هنا في السجن، وأخجل القول إنه بلغ الحُلم هنا، بينما ما تزال أمامه عشر سنوات إضافية حتى يتمكّن من معانقة الحرية من جديد!

أية حياة هذه، أية معاناة! هؤلاء هم أهل البلد، وأصله، يرثون السجن والعذاب ولا شيء لهم غير ذلك في العهد الغاشم!

هذه التفاصيل أقولها، لأبيّن كم هي مظلمة حياة مواطن مثلي في عهد هذا الملك، وكم هو قاس أن أرى صوره يومياً في الصحف الحكومية المسموح لنا بقراءتها. أراه وأولاده وعائلته يعيشون أجمل أيام حياتهم، بينما أنا وعائلتي نعيش أسوأ أيام حياتنا. أنا لا أخجل أن أعلن للعالم أني أكرهه، وأكره كل لحظة مرّت في سنوات حكمه.

عشتُ في العهد القاسي للأمير السابق عيسى بن سلمان [آل خليفة]، وذقت التعذيب والسجن، كما عشت في عهد حمد وذقت التعذيب والسجن إياهما، وأقول إنه رغم السواد الحالك لما لاقيته في عهد عيسى بن سلمان، فإنه كان بمثابة نُزهة مقارنة بالوحشية الرهيبة التي رأيتها في التعذيب تحت حكم حمد بن عيسى. عرفت حينما واجهت هذا التعذيب المهول أن أكبر أخطائنا هو أننا ظللنا نائمين بينما كان هو يبني مصنع العذاب هذا حولنا.

الكلام كثير لديّ، لكنيّ كسجين سياسي، أدعو جميع أهل البحرين، لأن يتذكرونا وعوائلنا، فنحن هنا كالموتى. إن السجن هو تماماً كما وصفته تلك الكلمات المنسوبة إلى النبي يوسف  "مقبرة الأحياء، وبيت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء".