د. عبدالهادي خلف: حصيلة عشرين سنة من خديعة الإصلاح في البحرين: البدايات «1- 2»

من سقطوا برصاص أجهزة الأمن أو تحت التعذيب في عهد الملك حمد أكثر بكثير ممن سقطوا خلال ستة عقود (عبدالهادي خلف)
من سقطوا برصاص أجهزة الأمن أو تحت التعذيب في عهد الملك حمد أكثر بكثير ممن سقطوا خلال ستة عقود (عبدالهادي خلف)

2019-03-07 - 8:38 ص

د. عبدالهادي خلف*

في بداية فبراير/ شباط 2005 وبمناسبة ذكرى التصويت على ميثاق العمل الوطني نشر الإعلام الرسمي مقالاً حمل توقيع ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة تحت عنوان "حلمت بوطن يحتضن كل أبنائه". وفيه أشار إلى بعض تفاصيل سيرته الذاتية وتأثيرها في صياغة وعيه الوطني ورؤيته السياسية المتمثلة في مشروعه للإصلاح والتحديث الشامل. فمنذ طفولته، يقول الملك، كان يعي "كيف عمل الوجود الأجنبي على تقليص مقومات استقلال الوطن وكيف عمل باستمرار وعناد على إبعاد كبار القادة الذين تمسكوا بالاستقلال إلى خارج البلاد". توقف الملك ليشير إلى إن إحساسه بألم الإبعاد عن الوطن يمتدّ لسنوات طفولته حين أدرك أن أمه التي وُلدت في المنفى في قطر "بعيداً عن الأسرة وشمل الأهل".  تلك الآلام التي تحملها ذكريات طفولته غرست في نفس الملك "البذرة القوية للنفور من إجراءات الإبعاد عن الوطن... ولهذا وعندما حانت لحظة القرار بتولينا المسئولية الأولى في البلاد كان من أول ما بادرنا إليه عودة جميع المبتعدين البحرينيين سياسيا إلى بلدهم وأهلهم أياً كانت الاعتبارات والملابسات السياسية والقانونية التي أدت إلى إبعادهم". (8 فبراير/ شباط 2005)

بعد سبع سنوات من نشر ذلك المقال تخلَّص الملكُ تماماً من ذكريات طفولته ومعاناة أمِّه التي زرع إبعادها عن البحرين في نفسه بذرة قوية للنفور من إجراءات الإبعاد عن الوطن. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 أصدر الملك أوامره بتجريد 31 مواطناً ومواطنة من جنسيتهم البحرينية. لم يوفر لأيٍ منهم فرصة معرفة مسببات ذلك القرار ناهيك عن تفنيدها. بجرّة قلم وفي انتهاك صارخ لشرعة حقوق الإنسان تحوّل أغلب من تمّ تجريدهم من جنسياتهم  إلى فئة "بدون جنسية" سواءً أكانوا مقيمين في البحرين أو في خارجها. ولم تتوقف تلك الإجراءات حتى الآن. فمنذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 وحتى الآن تم تجريد أكثر من ثمانمائة وأربعين مواطنا ومواطنة من جنسيتهم البحرينية. وثمة مؤشرات على أن التجريد من الجنسية سيصبح "عقوبة اعتيادية". ففي العام الماضي وحده 2018 بلغ عدد الذين جُرِّدوا من جنسيتهم البحرينية 298 مواطنا.

لا تنحصر انتهاكات حقوق الإنسان في التجريد التعسفي من الجنسية. فمنذ أن تولى حمد مقاليد الحكم في 6 مارس/ آذار 1999 شهدت البحرين انتهاكات لحقوق الإنسان لم تشهد مثلها طيلة تلك العقود التي سبقته. فخلال ستة عقود سبقت عهده سقط برصاص أجهزة الأمن أو تحت التعذيب عدد أقل بكثير ممن قتلتهم أجهزة الأمن بالرصاص المطاطي أو الحي أو تحت التعذيب تحت راية المملكة الدستورية.  بل إن من توفوا بسبب إطلاق أجهزة الأمن لقنابل الغاز المسيل للدموع منذ قمع انتفاضة اللؤلؤة في منتصف مارس/ آذار 2011 يفوق عدد الضحايا الذين سقطوا في البحرين طيلة 35 سنة تولى فيها السفاح البريطاني إيان هندرسون قيادة جهاز الأمن في البحرين. نعم، لم تتوقف انتهاكات حقوق الإنسان في عهود الهيمنة البريطانية؛ إلا إن محاكمها لم تحكم بالإعدام على معارض. بل لم تحكم بالإعدام أو بالسجن المؤبد حتى على القيادات الوطنية الذين اتهمتهم في 1956 بالتخطيط "للقيام بتفجيرات ولاغتيال الحاكم". أما في العهد الملكي، عهد حمد، فلقد أصدرت محاكم البحرين في عامٍ واحد (2018) أحكاماً بإعدام 26 مواطناً.

سجلُّ العهد الملكي هو سجلٌ أسود نحتاج لتوثيقه وحفظه ضمن ذاكرة الوطن ولمحاسبة الملك وجلاوزته على انتهاكاتهم لحقوق الإنسان. أسوأ ما في هذا السجل الأسود هو أن تفاصيله حدثت تحت راية "المشروع الإصلاحي".

بداية خديعة الإصلاح

في السادس من مارس/ آذار 2000 وبمناسبة مرور سنة على تولي الشيخ حمد آل خليفة مقاليد الحكم في البحرين كتب القائد اليساري عبدالرحمن النعيمي مقالة تحت عنوان "رسالة إلى أمير البحرين في الذكرى الأولى لتوليه الحكم". في ذلك المقال لاحظ الرفيق النعيمي أن العام مرَّ دون تحرك جدي نحو تحقيق انفراج سياسي؛ ولكنه تميز بكثرة الوعود وكثرة الدعاية وقليل من العمل وقليل من التنفيذ. ولهذا بدا الشـيخ حمد في السنة الأولى من عهده ولفترة بعدها حريصاً أبعد الحرص على نشر الوعود التي بدت متناقضة أحياناً لإرضاء الأطراف المختلفة.  كان العام الأول عام التلميح بالإصلاح السياسي دون تحديد لماهية ذلك الإصلاح. فرغم صخب الضجيج الإعلامي المصاحب لها فإن إدارة حمد للحكم لم تأتِ بجديد في السنة الأولى. فلقد كان محكوماً بسبب ضآلة خبرته السياسية بأن يراوح في مكان أبيه وألا يتحرك إلا ضمن المساحة الضيقة التي يتيحها له عمُّه رئيس الوزراء. ولم يكن خافياً بأن حمد لم يكن مؤهلاً لتحدي عمّه وأنه لم يكن قادراً على تحجيمه بدون أن يجمع حوله قاعدة شعبية تدعم تحركاته. ولذلك كله ظلت خطوات الأمير الجديد طيلة عامه الأول محصورة ضمن المسار الذي سار عليه أبوه.

 

بعد عام واحدٍ من الاسـتفتاء على ميثاق العمل الوطني بدت نُذُر تخلي الشيخ حمد عن تعهداته الإصلاحية (ع. خ)

 

رغم تهليل الإعلام الرسمي ومبالغاته حول نوايا الأمير الجديد الإصلاحية، تحاشى الأميرُ أن تؤدي أجواء التفاؤل التي عمّت البلاد إلى الاعتقاد بأنه على وشك القيام بتغيير جدي في طبيعة علاقة عائلته بالناس. بل هو حافظ حتى على شكليات تلك العلاقة وطقوسها كما عرفناها في عهد جده وأبيه بما في ذلك توزيع المكرمات الأميرية واللقاءات المنفردة مع ممثلي فئات المجتمع وأعيان البلاد بمن فيهم رجال دين من الطائفتين.  إلا إن الأمير الجديد زاد على تركة جده وأبيه بأن أضاف ممثلي التيارات السياسية إلى قائمة لقاءاته المنفردة.

لم يكن عبثاً عزوف حمد عن اللقاءات الجماعية بممثلي فئات المجتمع وتركيزه على اللقاءات المنفردة مع ممثلي كل فئة على حدة.  فهذا هو جزء من الطقوس التي تكرست في الماضي وخاصة في عهد جدِّه وتمت رعايتها وبجهود مضنية بذلها بعد ذلك أبوه وعمّه لأكثر من خمسة عقود. أسهمت تلك الطقوس في الإبقاء على التشطير العمودي للمجتمع البحريني وفي منع قيام تعاون ســياســي واجتماعي طويل المدى بين التعـاضـديات الاجتماعية. فمن خلال التشطير ومن خلال تنافـس التعاضـديات الاجتماعية ومن خلال حرمانها من فرص التعاون فيما بينها، استطاعت السلطة الخليفية أن تحافظ على دورها المهيمن على المجتمع دون الانخراط فيه. كما استطاعت أن تؤسس لشرعية من نوع خاص تقوم على كونها الطرف الوحــيد القادر على التوســط ما بين التعـاضديات المتنافســة والتحكيم بينها لضمان ألا تتعدى مصـالح تعـاضدية بذاتها على مصالح تعاضـديات أخرى.

ركّز حمد جهوده في عامه الأول على محاولات توطيد علاقته بالقوى المحلية والخارجية التي استندت إليها "شرعية" النظام الذي ورثه. على الصعيد المحلي كانت أولوية حمد هي تقديم ما يستطيع لطمأنة مخاوف قوتيْن محليتين أولهما عائلته، العائلة الخليفية، وأنصارها القبليين وثانيهما المؤسسة الدينية بفرعيها الشيعي والسني.  فرغم قلة خبرته السياسية إلا إنه لم يكن يجهل أن سلطته تعتمد على دعم كلٍ من هاتين القوتيْن. فعبر عقود طويلة في ظل الهيمنة البريطانية، وبعدها، أسهمت هاتان القوتان في إنجاح جهود السلطة في إدامة تشطير المجتمع إلى تعاضديات متنافسة. كما كانتا أكثر المستفيدين من إدامة ذلك التشطير في مختلف أشكاله الطائفية أو القبلية أو المناطقية.   

زيادة في المخصصات

فيما يتعلق بالعائلة الخليفية فلقد ركّز حمد على تقوية نفوذه ضمنها بزيادة المخصصات الشهرية المقررة لجميع أفراد العائلة حسب تراتبية محددة وكذلك عن طريق إعادة تشكيل مجلس العائلة الحاكمة وتعيين المقربين منه في عضوية المجلس. ولمجلس العائلة الذي تأسس في 1932 أهمية خاصة في ضبط العلاقة الرســمية بين الحاكم وبقية أفراد عائلته، كما يتولى تسوية النزاعات المدنية بين أفراد العائلة.  وطبقاً لمرسوم أميري صدر في 1973 أصبح مجلس العائلة الخليفية جهازاً رسميا في الدولة يتولى الأمير/ الملك تعيين أعضائه كممثلين معترف بهم لمختلف فروع العائلة. يرأس المجلس أحد أفراد العائلة الخليفية برتبة وزير وله جهاز تنفيذي ومكاتب إدارية وموظفين متفرغين.  وفيما يتعلق بالمؤسسة الدينية بشقيها الشيعي والسني فلم يكن لديها ما يدعو لقلقها على الامتيازات التي تتمتع بها بسبب قربها من العائلة الحاكمة وبسبب تخويلها الإشراف على الشؤون الدينية للطائفتين بما فيها تنظيم الأحوال الشخصية وقضايا الإرث عبر المحاكم الشرعية السنية والجعفرية علاوة على إدارة أملاك الأوقاف والإشراف على التعليم الديني وتشغيل رجال دين وغيرهم في المؤسسات الدينية المختلفة.

رغم الأهمية الكبرى لتلك الإجراءت في توطيد حكم الأمير الجديد إلا إنها لم تؤثر على منع استمرار الأزمة السياسية/ الأمنية القائمة منذ اندلاع انتفاضة التسعينيات المطالبة بإعادة العمل بدستور 1973 ووقف انتهاك الحريات وحقوق الإنسان. كان على الأمير الجديد أن يجد مخرجاً مما سمّاه "عنق الزجاجة" التي وجد سلطته فيه. أعلن حمد إنه سيدشن عهداً جديداً "يقوم على ضمان الوحدة الوطنية والأمن الداخلي من خلال التكافل بين المواطنين البحرينيين بدون تمييز بغض النظر عن أصولهم ومذاهبهم". تلت ذلك سلسلة من الإجراءات التي اندرجت فيما بعد تحت مسمى "المشروع الإصلاحي".  أبرز عناصر ذلك المشروع كان "ميثاق العمل الوطني" الذي تم تقديمه للاستفتاء العام في فبراير/ شباط 2001.

ركّز حمد على تقوية نفوذه ضمن العائلة الخليفية بزيادة المخصصات الشهرية المقررة لجميع أفرادها (ع. خ)

 

كانت نسـبة التأييد المذهلة التي حظي بها مشروع الميثاق انعكاسـاً حقيقياً لتوقعات النخب وللآمال الشـعبية بأن الشيخ حمد سـيلتزم بما ألزم نفسـه به من وعود بالإصلاح، بما في ذلك تخفيف القيود المفروضة على حرية التعبير والتنظيم وإلغاء قرارات منع السـفر المفروضة على المعارضين، وإلغاء قانون أمن الدولة وتفرعاته، وإعطاء المرأة حقوقها كاملة كمواطنة.  لوقتٍ قصير في البداية كانت الأمور تسـير سـيراً يبشـر بالخير فلقد قام حمد فعلاً بعدة مبادرات إصلاحية بما فيها منح النساء حقوقهن السياسية كما أصدر قراراً بالعفو العام أدى إلى عودة المبعدين السـياسيين إلى البلاد وإخلاء السـجون من المعتقلين السـياسيين. إلا أن التطورات اللاحقة في البحرين بعد اسـتفتاء عام 2001 سـرعان ما بدّدت أجواء التفاؤل التي عمّت عشية الاستفتاء.

بعد عام واحدٍ من الاسـتفتاء بدت نُذُر تخلي الشيخ حمد عن تعهداته الإصلاحية. ففي 14 فبراير/ شباط 2002 أعلن الشيخُ نفسـه ملكاً وأصدر - بإرادة منفردة -  دسـتوراً جديداً لمملكته. وحسـب الدسـتور الجديد أصبح الملك هو "رأس الدولة، والممثل الأسمى لها، وذاته مصونة لا تمس، وهو الحامي الأمين للدين والوطن ورمز الوحدة الوطنية". وهو وحده المختص بتعيين رئيس الوزراء والوزراء والسفراء والمحافظين والقضاة وأعضاء مجلس الشـورى وأعضاء المحكمة الدستورية وقادة القوات المســلحة والأمن والحرس الوطني. وهو وحده من يملك إعفاء كل هؤلاء من مناصبهم. وللملك حق اقتراح القوانين وتعديلها، وحق إبرام المعاهدات مع الدول الأخرى دون الحاجة إلى موافقة البرلمان. وفوق ذلك كله فالملك حسب دستوره هو صاحب القول الفصل في أي خلاف تشـريعي أو بين السـلطات الأخرى في المملكة.  

لم يكن الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني في نظر الملك والعائلة الحاكمة تدشيناً لعهد جديد قائم على المبادئ المتعارف عليها في الممالك الدستورية الحديثة.  بل كان حسبما أعلن الملك نفسه وعددٌ من كبار عائلته تخويلاً مطلقاً له. وهذا ما أعاد الملك تأكيده في خطبه وتصريحاته التالية وفي المقالات التي نُشرت باسمه.  ففي أحدها (2005) كتب الملكُ إن "كثافة بعد كثافة التصويت الشعبي الشامل على الميثاق" بيّنت إن الأمر "ليس صيغة تعاقدية فحسب وإنما بيعة متجددة، وتفويض وطني لنا بقيادة المسيرة إلى آفاقها الجديدة".

اعترض كثيرون وفي مقدمتهم قادة تنظيمات المعارضة على هذا التفسير. فلم يتصور أحدٌ أن التصويت بنعم في الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني تعني مبايعة الملك وتفويضه بأن يفعل ما يشاء.  إلا أن تلك الاعتراضات لم تكن كافية لتغيير توجهات الملك وأنصاره. من جهة أخرى كان الرأي الغالب بين قادة تنظيمات المعارضة يميل إلى التنبيه إلى خطورة حرق المراحل وإلى الحذر من إحراج الملك وهو يواجه ما قيل إنه الحرس القديم في العائلة الخليفية. في المقابل اعتبر عددٌ قليل من نشطاء المعارضة أن إعلان الدستور الملكي كان إعلانا عملياً عن أن الملك قد بدأ في التخلي عن "مشروعه الإصلاحي".  

ألحق الملك دستوره الجديد بسلسلة من المراسيم والقوانين الإضافية بهدف تحصين السلطة التنفيذية وحمايتها من احتمالات المساءلة في المستقبل. من بين تلك المراسيم الرسوم رقم 56 لسنة 2002 بالعفو عن موظفي الدولة، وبخاصة ضباط أجهزة الأمن، من المتهمين بجرائم وبانتهاكات لحقوق الإنسـان. وبذلك حرم الملك آلاف المعتقلين السـياسـيين ومئات المبعدين السـياسـين وضحايا التعذيب من حق ملاحقة المتسببين في انتهاك حقوقهم في المحاكم كما حرمهم من حق الحصول على التعويضات المادية والأدبية المناسبة.  وبطبيعة الحال أدى مرسـوم العفو إلى إلغاء كل أمل في إجراء مصالحة وطنية تقوم على محاسـبة الماضي والمسئولين عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت فيه بما في ذلك سـقوط عشـرات الشـهداء.

* كاتب بحريني وأستاذ علم الاجتماع في جامعة "لوند" بالسويد

* للاطلاع على ملف "عقدان في الظلام" بصيغة pdf