المنبر الديمقراطي التقدمي: نصف تقدمي، نصف حكومي

يوسف مكي - 2012-06-10 - 11:23 ص


يوسف مكي*

بين انعقاد مؤتمر العام السادس لجمعية المنبر الديمقراطي التقدّمي في أواخر شهر أبريل، واختيار أمينٍ عام في 6/8/ 2012، توجد فترة زمنية (حوالي ستة أسابيع )، وهي فترة طويلة نسبيًا من أجل اختيار أمينٍ عام، مما يشير إلى أنّ المنبر التقدّمي سواءً على مستوى القواعد، أو على مستوى القيادات، ليس على مايُرام ، وربمّا وصل الوضع إلى مستوى الانشقاق غير المُعلن (ولكنّه حديث البلد على أيّة حال)، وذلك على خلفية ما أفرزته وكشفته حركة 14 فبراير من مواقف سياسية مُتباينة على مستوى قيادة وقواعد المنبر التقدمي. طبعًا لم يكن المنبر هو الوحيد ، لكنّ مشكلة المنبر عميقةٌ جدًا وخطيرة.

ولا شكَّ أنَّ الحريصين على وحدة المنبر كانوا خلال هذه الفترة يحاولون جاهدين إيجاد تخريجة  ما للملمة ما تبقّى من المنبر، أو الإبقاء على بعض مجده التليد (جبهة التحرير الوطني البحرانية)، وإيجاد قواسم مُشتركة فيما بين الأطراف المُتصارعة لمنع الانشقاق شكلًا، مع بقائه (الانشقاق) من حيث الواقع والمضمون قائمًا، وينتظر الصاعق في أي لحظة لينفجر.

 إنّ التأخير في اختيار أمين عام للمنبر له معانٍ كثيرة من بينها: أنَّ المنبر ظلَّ لأكثر من ستة أسابيع دون قيادة، دون رأسٍ مُوجِّه، أي أصبح مشلولًا، وذلك يتعارض مع أبسط مبادىء العمل السياسي للحزب/ الجمعية، وفي الوقت نفسه يعكس حجم الأزمة التي يعيشها المنبر ولم يتمكن من تجاوزها، وهي أزمةٌ مُركّبة ومُعقّدة ومُزمنة (ولكن الأحداث سرّعتها وأظهرتها إلى العلن وهذه من محاسن حركة 14 فبراير)، وهي أزمة ذات أبعاد مُتعدّدة، وبالتالي فإن التأخير أجّل الانشقاق ، لكنّه لم  ولن يمنعه.

قلنا إنّ أزمة المنبر مُركّبة ومُعقّدة، فهي ذاتية، بمعنى أنّ الأزمة تعود إلى طبيعة وتركيب القوى والأطراف التي تتكوّن منها، وهي ليست وليدة المنبر بقدر ما هي وليدة النضال السابق على المنبر، وليدة التاريخ السرّي للعمل النضالي، وهي وليدة اختلاف الرؤى بين الأجيال المُتعاقبة في جبهة التحرير، والاختلاف بين القيادات التاريخية وغير التاريخية، والاختلاف بين طبيعة العمل السرّي والعمل العلني، والاختلاف بين من فضّلوا السلامة والأمان والغنائم، ومن لا زال حاملًا شُعلة النضال، وكأنّ جبهة التحرير ما تزال قائمة، وأيضًا الاختلاف بين المواقع والمصالح المادّية لقيادات وأعضاء المنبر، والاختلاف بين المناضلين الحقيقيين والمناضلين (الشو)  - وهذا هُنا هو مربط الفرس – بين من هم (في المنبر) مع الحراك الجماهيري الذي تشهده البحرين، مع بعض التحفّظات والملاحظات حول طبيعة القوى المُشاركة والفاعلة فيه، وأنّ الحركة الجماهيرية هي المكان الطبيعي له، وبين من هم (في المنبر) ضدَّ الحراك الجماهيري بحجّة أنّه طائفي، وأنّ القوى الفاعلة والمحرّكة له طائفية، والمنبر لا يجوز له أن يقف مع هكذا حركة طائفية،  ولا بدَّ أن يكون مستقلًا بمواقفه، وهو ذو الإرث الاشتراكي اليساري/ العلماني العابر للطوائف حسب زعم هذا الطرف. لكنّه في المُحصّلة النهائية اصطفافٌ طائفي من طرفٍ في حزب اشتراكي يساري ليبرالي، يخدم السلطة ولا يخدم الحزب/ الجمعية، ولا قضية الحزب.

ومن جرّاء هذا الانشطار/ الانشقاق، وبغضِّ النظر عن مُبرّرات كل طرف من أطرافه، فإنَّ ما حدث بعد ستة أسابيع من المؤتمر ليس سوى تسويةً مُؤقّتة لوضعٍ لا يُمكن حلّه بالتسويات. فالانشقاق قائم وقادم لا محالة ، على طريقة فصل التوائم السيامية.

هكذا تبدو الأمور في الظاهر ومن خلال المواقف المعلنة، ولكن ما هو غير ظاهر في وضعية المنبر أنّ ما جرى يعكس لعبة حكومية على مدار سنوات تجاه المنبر، وذلك من خلال ما لم تستطع الحكومة فعله في السر في سنوات الجمر مع الجبهة، استطاعت أن تفعله في سنوات العلن مع المنبر، حيث استطاعت تهجين وتدجين المنبر بطُرقها الخاصّة والجهنّمية، عن طريق القمع الناعم وشراء الذمم، بحيث أصبح المنبر وريث الجبهة، ولكن ليس على خُطاها. لا بل استطاعت السلطة بطُرُقها أن تُطأفنْ المنبر عن طريق بعض الوجوه اليسارية والعلمانية فيه، القديمة والجديدة، هذا فضلًا عن العناصر الطارئة عليه، والمتشدّقة بماضيه المجيد وغير المشاركة فيه. ومن جرّاء هذا العمل أصبح للحكومة ظلٌّ في المنبر، بشكلٍ أو بآخر.

أمّا فيما يتعلق بمواقف الأطراف في المنبر، وما يُقال من مبرّرات في عدم فاعليّته في الحراك الجماهيري، ومنعه من القيام بدوره بحجّة طائفية هذا الحراك، فإنّ الطرف المُمانع لانخراط المنبر مع الجماهير إنّما يعكس وعيًا أقل من الوعي الذي يدّعيه حاملوه، يعكس فضيحةً تاريخية مُتمثّلة بظهور وعي طائفي إثني بلباسٍ يساري دوغماتي، وهو وعيٌ أبعد ما يكون عن أيديولوجيا الجبهة فيما مضى، وأيديولوجيا المنبر المُعلنة في الحاضر، إنّه وعيٌ طائفي من حيث المضمون، بلغةٍ يسارية وفي إيهاب  علماني، الهدف منه إفراغ المنبر من مضمونه السياسي المُلتزم بقضايا الشعب البحريني التي طالما تغنّى بها، وبالتالي خدمة الأجندة الحكومية. 

وعليه فإنَّ المنبر هو الآن في وضع اختطاف، لأنّه غائبٌ عن مجاله الحيوي الذي وُلد فيه وتنفّس هواءه، أعني الجماهير وقضاياها العادلة. مُنذ أن غادر منصّة الدوّار واشترك كشاهد زور في لجنة مُتابعة تنفيذ توصيات لجنة بسيوني، وهو ما أرادته الحكومة بالضبط فتحقّق لها ذلك. إذن ما معنى المنبر التقدّمي دون الجماهير؟ وهو الذي كان طليعتها فيما مضى.

هل تغيّر المنبر إزاء هذه القضايا؟ من الصعب بمكان الإجابة على هذا السؤال بشكلٍ جازم، لكنّ المؤشّرات والقرائن، ولا أقول الدلائل، تُعطي الانطباع بأنّ المنبر الديمقراطي التقدّمي أصبح من الآن فصاعدًا منبرين، أو نصفين، على طريقة التوائم السيامية، لا بُدّ من فصلهما بعملية جراحية لكي يعيش كلٌّ منهما على طريقته. ولكنّ الفرق بينهما أنّ أحد النصفين تقدّمي ويحمل كل صفات الأب الأصلي/ الجبهة، والآخر حكومي يحمل صفات الأب الجديد/ الحكومة.

فهل يستقيم الوضع على ما هو عليه؟ وهل يستطيع المنبر أن يعيش على طريقة التوائم السيامية أم لابُدَّ من الشق/الفصل/الانشقاق؟ - وهو الأمر الطبيعي في مثل هذه الحالات كما نصحتُ أحد الأصدقاء في المنبر لكي يعيش من يعيش ويموت من يموت -  والتاريخ كفيل بأن يحكم أي من النصفين هو الابن الحقيقي لجبهة التحرير، ومن الابن المزور. ولكن هذا ما ستجيب عنه الأيام والأحداث.

*باحث بحريني متخصص في علم الاجتماع


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus