» رأي
آل خليفة والشرعية المفقودة
يوسف مكي - 2012-04-01 - 1:55 م
يوسف مكي*
منذ دخول (احتلال/ غزو/ فتح) آل خليفة البحرين في عام 1783، برزت ثلاثة تحدّيات خطيرة ما زالت قائمة حتى اليوم، على الرغم من مرور أكثر من قرنين، أما هذه التحديات فتتمثل في: الصراع الداخلي فيما بين أجنحة العائلة، ومقاومة السكان الأصليين(البحارنة) لهم، وأزمة الشرعيّة. وهذه التحديات مترابطة ومتداخلة.
فعلى صعيد الصراع الداخلي، ومن خلال الوقائع التاريخية، نجد أن الصراع بين أفراد ومتنفّذي العائلة وأجنحتها وحلفائها قد استمر بشكل دموي على امتداد ثمانين عاما حتى استتب الأمر لهم وتمتّ السيطرة على الأوضاع والسكان.
وكمثال على هذا الصراع يمكن الإشارة إلى الصراع المرير بين سلمان وعبد الله ابني أحمد (الفاتح) ثم بين أبنائهما وأحفادهما، حتى أصبح هذا الصراع يُعرف لاحقا بالصراع بين جناحي عبد الله من طرف، وسلمان من طرف آخر.
فتارة يتغلّب هذا الجناح أو المحسوبون عليه، ومرة يتغلب ذاك الجناح أو المحسوبون عليه، ويتم الحسم بين الأجنحة بالقتل أو النفي أو بالتحالفات القبلية. وظل الأمر سجالا بين الجناحين وعلى المكشوف حتى سنة 1869، وهى السنة التي تم فيها تعيين عيسى بن علي (الذي جيء به من الزبارة) حاكما للبلاد بدلا من أبيه علي بن خليفة الذي مات مقتولا من قبل أخيه محمد بن خليفة الطامع في الحكم.
وفيما يخصّ هذا التحدي، يمكن القول إن الصراع الداخلي فيما بين أجنحة آل خليفة قد تم التغلب عليه من جراء ضبط الانكليز له، وترتيب البيت الخليفي، ولكن دون التمكّن من إلغائه نهائيا، إلا أنه أصبح صراعا خفيّا بعد أن كان علنيّا، وما زال مستمرا لحد الآن بطرق شتى ومن خلال تجاذبات فيما بين أجنحة العائلة، أو بين ما يُعرف بالصقوروالحمائم، وأظن أن البحرين كانت دائما وإلى الآن تدفع ثمن هذه الصراعات والتجاذبات في عائلة آل خليفة، وغالبا ما يتم الحسم لصالح التيار المتشدد.
وفي بعض الأحيان يحدث نوعا من التوازن أو اللاحسم في الموقف، ويترك الأمر لعامل الزمن لتغليب كفة هذا الجناح أو ذاك. ولكن في كل الأحوال يمكن القول إن هذا التحدي قد تم ضبط إيقاعه بشكل عام لصالح استمرار وسيطرة العائلة على مقدرات الحكم والثروة في هذا البلد.
اما بالنسبة للتحديّ الثاني أي تحديّ السكان البحارنة، فقد مثّل بالفعل ولا يزال، تحدّيا جدّيا لحكم آل خليفة منذ اللحظة التي وطئت فيها أقدام الغزاة الآوائل منهم أرض البحرين. ذلك أن البحارنة لم ينظروا لآل خليفة كفاتحين أو باحثين عن الرزق في أرض الله الواسعة، بل نظروا إليهم كمحتلين وغزاة، فرضوا أنفسهم عليهم بالسيف والدم، وعاملوهم بمنطق الغنيمة والأسلاب وشيدوا حكمهم على العصبية القبلية والغلبة، وفرضوا سياسة الأمر الواقع على جموع السكان الذين وجدوا حكاما غريبين عنهم، أخذوهم على حين غرّة، واستعبدوهم دون شفقة، وتقاسموا أملاكهم كغنيمة حرب.
وقد تأكد هذا الموقف بمرور الوقت، من خلال ما وقع على السكان البحارنة من ظلم طائفي وطبقي مرّكب من قبل العائلة الحاكمة، ولا زال مستمرا حتى الآن وبأشكال مختلفة متداخلة بين الحداثة والاستبداد.
ولأن العلاقة هي علاقة بين غازٍ من جهة، ومغزوٍ من جهة اخرى، فقد تصدّى السكان البحارنة لهذا الاحتلال بشتى السُبل الممكنة للحدّ من نتائجه السلبيّة عليهم، كما تصدّى الغازي للسكان ولتاريخهم، وحاول بشتى السُبل أن يتلاعب بالتركيبة السكانيّة منذ لحظة احتلاله للجزر من ناحية، وبالثقافة والتاريخ الخاصين بالسكان والسابقين لاحتلاله من ناحية اخرى، وتدوين تاريخ جديد للجزيرة.
أن عملية التغيير السكاني، وإنْ اتخذت في البدايات شكل هجرات قبليّة، وبطريقة عنفيّة في بعض الأحيان، وسلسة في أحيان أخرى وبتشجيع من الحكام الجدد، وتأسيس أماكن تجمّع جديدة للسكان الجدد التي كانت غير موجودة أصلا.
فعملية تذويب السكان الأصليين اتخذت فيما بعد شكل التغيير السكاني الناعم، والذي كان النظام يهدف من ورائه إلى صناعة شعب آخر قبالة شعب أصيل، وإحلال سكان آخرين من شتى بقاع الأرض مكان السكان الأصليين (البحارنة) ومحاولة امحاء نتائج الغزو.
ومخطط البندر"الناعم" ليس آخر ما يقوم به آل خليفة على صعيد استبدال شعب بشعب آخر، والمعروف تحت مسمى التجنيس السياسي. ففي جعبة آل خليفة، على هذا الصعيد الكثير، ودلالة على ذلك إنه ومع مرور أكثر من قرنين على الغزو فإن آل خليفة لم يتصالحوا مع من غزوهم، ولم يندمجوا مع من احتلوا، بل مارسوا سياسة القفز فوق الوقائع السكانيّة والتاريخيّة والثقافيّة للسكان الأصليين (وتزويرالتاريخ والوقائع حيثما تطّلب الأمر ذلك)، وتركوا البلد مرتعا لما هبّ ودبّ، وأصبح بقدرة قادر من السكان الأصليين، وظل منطق الاسلاب والغنائم (البحرين وسكانها غنيمة حرب) هو الحاكم لمنطق القبيلة والنظام السياسي المفصّل على قياس القبيلة، ولا يتسع لغيرها، وهكذا يفعلون.
اما التحديّ من قبل السكان فمستمر ولم يستطع آل خليفة التغلب عليه، وما الحركة الشعبية الأخيرة المعروفة بثورة 14 فبراير/شباط إلا ضمن هذا التحديّ لسلطة آلخليفة.
والأمور لا تسير كما يشتهي آل خليفة، فالممانعة والمقاومة لسياساتهم وخططهم من قبل السكان لم تتوقف في يوم من الأيام، وما الحركات الاجتماعية والسياسية والثقافية المتتالية والمتعاقبة على امتداد أكثر من قرنين إلا دليلا على فشل النظام الخليفي في خططه وسياساته المعادية للشعب.
كما أن هذه الأشكال من الممانعة والمقاومة العنيفة تارة والسلمية تارة أخرى، والناعمة مرة ثالثة الا دليل رفض لهذا النظام، كما تمّثل تحدّيا له، وأن الشعب لا يمكنه السكوت عما يمارسه النظام من أخطاء فادحة تتعلق بوجوده وكينونته ومن ضمنها العبث بالتركيبة السكانيّة، والعبث بمقدرات البلاد والعباد.
أما على صعيد التحدي الثالث أي شرعية النظام، فالكلام كثير. فمن المعروف في العلم السياسي الحديث إن شرعية الأنظمة السياسية تقوم على نوعين من الشرعية، هما: الشرعية الدستورية، والشرعية الثورية. والنظام الحاكم في البحرين ومنذ لحظة الغزو يفتقد لهاتين الشرعيتين، ويحاول ان يُثبت وجوده من خلال منطق السيف والغلبة/ وشرعية المتغلّب.
وفي هذا السياق، كلما سنحت الفرصة لفرض أحد هاتين الشرعيتين، فإن النظام يحاول جاهدا القفز عليهما من خلال سلسلة من الآليات والتدابير والتحالفات والسياسات المعيقة لهذين المبدأين، معتمدا على منطق خاص به هو شرعية القبيلة المتغلبة بالسيف ومصادر القوة على جموع السكان المغلوبين والمهزومين، وكأن البلد مزرعة للقبيلة وليست وطنا لكل ابنائه.
واذا كان هذا المنطق صالحا لحظة بدء الغزو، إلا أنه غير صالح الآن، في ظل وجود أنظمة سياسية قائمة على أسس دستورية نابعة من الشعب، وقائمة على أساس التوافق بين الحاكم والمحكوم، أو من خلال الشرعية الثورية.
وآل خليفة بطبيعة الحال هم أبعد ما يكونون عن الشرعية الثورية، لكنهم في الوقت نفسه أبعد ما يكونون كذلك عن الشرعية الدستورية، على الرغم من أنهم كانوا طيلة تاريخهم في الجزيرة يبحثون عن الشرعية، ولكن دون جدوى. فهذا النظام هو حكم قبلي يفصّل الدولة والمجتمع على قياس القبيلة، ويرفض حتى الاحتكام الى الشرعية الدستورية. الأمر الذي يعمّق من عزلة النظام ويُفقده شرعيته المفقودة أصلا.
فهو من هذا المنظور غير شرعي في نظر من يحكمهم، لأنه يحكم باسم القبيلة وليس باسم الشعب، يحكم بالقوة والبطش وليس برضى المواطنين. ذلك أن الحكم باسم الشعب يتطلب الإقرار بحق الشعب في المشاركة في الحكم فعلا لا قولا، ومن خلال وثيقة دستورية يتمّ التوافق بشأنها بين الشعب والنظام.
ولا شك أن النظام يحاول التغلّب على هذا التحديّ، لكن دون جدوى مع بقاء نظام القبيلة ومنطق الغزو والأسلاب. فالشرعية الحقيقية اذا ما أرادها النظام فإنها لا تتوافق مع منطق النظام القبليّ، إنما تتوافق مع النظام الدستوري المحكوم به مع أسس أنظمة الحكم الحديثة القائمة على التراضي والتوافق والمُواطنة.
والمفارقة في نظام آل خليفة إنه في الوقت الذي يبحث فيه عن شرعية ما، فإنه سرعان ما ينقلب على أي نوع من الشرعية التي لا تتوافق مع نظام القبيلة المتغلبة والتي تجرده من امتيازات "الفتح".
هذا ما حدث لكل التوافقات والمحاولات الدستورية التي جاءت بفعل نضالات الشعب البحريني على امتداد أكثر من قرنين، حيث التف النظام عليها وأفرغها من مضمونها، وهو ما حدث لدستور 1973 التوافقي/العقدي حين قام النظام بالانقلاب عليه بعد سنتين من التجربة الدستورية مع بداية السبعينيات، حيث دخلت البلاد في نفق مظلم من القمع والظلم والتمييز. ثم قام بالانقلاب على ما تم الاتفاق عليه في الميثاق في اعقاب انتفاضة التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، حين قام النظام بتقديم دستور جديد في عام 2002 بدلا عن الدستور الأصلي/العقدي لسنة 1973. وبذلك قضى على أي نوع من الشرعيّة في قضية الحكم.
وجراء ذلك، لم يكن أمام الشعب، وبعد مرورعقد مما سميّ بالإصلاحات، الا أن يعاود مرة أخرى المطالبة بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم من خلال دستور عقدي قائم على أساس من الشراكة الحقيقية في الحكم، ودون لف ودوران. ومن جراء ذلك فقط يمكن للنظام الخليفي أن يكتسب الشرعية المفقودة، ودون ذلك سيظل هذا النظام في نظر من يحكمهم فاقدا للشرعية، وستظل المطالبات والتحركات السياسية والشعبية قائمة حتى إشعار آخر.
من كل ما سبق فإن الشرعية لنظام الحكم في البحرين تتطلب ثلاثة أمور في غاية الأهمية، وهي:
التصالح مع شعبه والكف عن اللعب بالورقة الديموغرافية (السكانية)، والتحول إلى ملكية دستورية حقيقية من خلال دستور عقدي يتم التوافق بشأنه والاتفاق عليه، وأخيرا انتهاج سياسة إقليمية ودولية متوازنة وبعيدا عن التجاذبات الإقليمية والمصالح الضيقة، لأن البحرين أهم من كل تلك المصالح السياسية/القبلية والطائفية الضيقة.
انه نظام يبحث عن شرعية في غير موضعها.
*باحث بحريني في علم الاجتماع