عشية انتهاء محكوميتها.. زوج ريحانة الموسوي: كلنا أيتام ريحانة.. تعريتها أبكتني وحزن ابني أعجزني وابعاد طفلتي أشعرني بالذنب

2016-04-20 - 3:59 ص

 

منذ اعتقلت، وأنت أدرى بالسبب

كلّ الليالي السود تسقط في أغانينا ضحية

و الضوء يشرب ليل أحزاني وسجني

فتعال، ما زالت لقصتنا بقية!

محمود درويش

 

مرآة البحرين (خاص):

امسك نَفَسَك قبل القراءة، فما سيأتي ليست قصة من نسج خيال إثارة العواطف، ولا مكان للتضخيم الدرامي فيها، إنها تحكي بايجاز مقل، وضع عائلة بحرينية غابت عنها الأم منذ 3 سنوات، وتركت عند هذا الغياب الاضطراري طفلة عمرها 3 سنوات، وصبي مراهق في الثانية عشر من عمره، ومراهق ثالث في الخامسة عشر من عمره، وزوج مقيّد بدوام عمل طويل وفقد عصيب. إنها عائلة المعتقلة ريحانة الموسوي.

غداً 20 إبريل 2016 تنهي ريحانة مدة محكوميتها، تعود أخيراً إلى عائلتها لتجد أعمار أطفالها قد قفزت 3 سنوات دفعة واحدة هكذا: زينب 6 سنوات، عبدالله 15 سنة، حسين 18 سنة، وهي وزوجها سيد طلال علوي أكبر بسنوات ثقال عجاف.

"ريحانة هي المرأة الوحيدة التي دخلت السجن ولم تخرج إلا بعد ثلاث سنوات وهي أكبر مدة قضتها امرأة بحرينية على خلفية قضايا سياسية بشكل متواصل، وأكثر امرأة صدر بحقها حكماً في المحاكم المدنية ( 10 سنوات)، قبل أن تخفف في التمييز إلى 5 سنوات بتهمة (خلية الائتلاف)، وبقت مسجونة قرابة العامين حتى أسقطت عنها قضية (الفورمولا) التي كانت محكومة بها لمدة عامين" يقول سيد طلال.

غداً فقط يمكن لريحانة وعائلتها أن يتعانقوا طويلاً، أن يشمّ كل منهم ريح الآخر، أن يسكنوا في دفء حضن غير مراقب ولا محاصر ولا معزول، أن يتنفسوا عميقاً، فمنذ عامين لم يُسمح لهم بالالتقاء إلا عبر حاجز زجاجي يقطع ولا يصل، تتعانق خلاله أطراف الأصابع الباردة فقط فقط عبر فتحات قاسية، يغادر كل منهم منكساً رأس لوعته وحرمانه.

ستخرج ريحانة غداً وهي قلقة على رفيقتها في الزنزانة "زينب الخواجة" وابنها "هادي"، فقد كانت هي من تقوم بالاعتناء بطفلها عندما تحتاج زينب الذهاب إلى العيادة أو دخول الحمام أو الاستحمام، لا تأمن زينب ترك ابنها عند أحد آخر غير ريحانة، الآن تحمل ريحانة همّ ترك زينب لوحدها مع طفلها في مكان غير مناسب لنشأة الأطفال، وتتمنى أن يخلى سبيل زينب بأسرع وقت مراعاة لوضعها الإنساني مع طفلها.

سيد طلال علوي يروي لـ«مرآة البحرين» بألم شديد كيف قضت عائلة ريحانة هذه السنوات الثلاث؟ وأكثر ما أثر فيه من اعتقال ريحانة؟ وأصعب المواقف التي مرت عليه وأطفالهما؟ ومدى تأثير غياب ريحانة على عائلتها؟ وكيف حاول أن يقوم بدور الأم والأب معاً؟ وكيف يستعد الآن لاستقبال ريحانة..

أبكي كلما ذكرت حادثة تعرية ريحانة

يقول سيد طلال علوي: قضية تعرية ريحانة هي أكثر ما أثّر فيّ. يؤذيني نفسياً مجرد ذكر هذه الحادثة سواء في مكان عام أو خاص. أبكي في كل مرة أسمعها. إنها عرضي. ورغم أن من قمن بتعريتها هن من الشرطة النسائية في مركز الرفاع الغربي، إلا أن الباب ترك مفتوحاً لمن يمر ومن يعبر. لم يكن هذا فقط بل تعرضت أثناء التحقيقات للتحرش بالكلمات واللمس إضافة إلى الضرب والركل والدفع إلى الجدار وأشياء لا أستطيع البوح بها. لقد أخبرتني ريحانة بذلك في أول لقاء لي معها بعد 3 أسابيع من اعتقالها وكانت في حال شديدة من الانهيار.

يكمل علوي: لم يُتخذ أي إجراء حول هذا الموضوع، في المحكمة لم يوثق القاضي القضية كما ذكرتها ريحانة، واكتفى بتوثيقها تحت مسمى "إيذاء نفسي"! رغم أن لديها أسماء من قمن بتعريتها. لجأتُ إلى لجنة التظلمات التي يرأسها عبدالله الدرازي، وبعثت بنسخ إلى المحامي وجمعية الوفاق. لم نتمكن من فعل شيء. لم يكن بيدي أكثر من أن أدعمها نفسياً وأقويها كي تتجاوز الأمر، وكنت أؤكد لها أنني فخور بها وأن ما حدث لها بعين الله وأنني لن أتخلى عنها مهما حدث وسأكون إلى جانبها دوماً.

يردف علوي: بعد اعتقالها مباشرة قابلتها في مركز الرفاع لمدة دقيقة ونصف كانت متعبة جداً ومرهقة، كانت تهمتها فقط التجمهر، حتى إن الضباط هناك أخبروني بذلك، فسألتهم إن كان هناك تعهد أو أي شيء لكي يطلق سراحها فأخبروني أنها ستؤخذ إلى النيابة وهناك سيتقرر الإفراج عنها أو عدمه.

في اليوم التالي ذهبت إلى النيابة لكن لم يأتوا بها، بعدها عرفت أنهم أخذوها إلى التحقيقات، وهنا أدركت أن المسألة ستطول، وأن الموضوع ليس تجمهرا فقط كما أخبرت، بقت يومين في التحقيقات بعدها تلقيت اتصالا منها قالت لي بأنها ستؤخذ إلى النيابة العامة، ثم لم أرها إلا بعد حوالي 20 يوماً. اتصلت مرة واحدة قالت إنها في مركز مدينة عيسى وبعدها لم نسمعها أو نقابلها. تفاجأنا فيما بعد بتحول قضية التجمهر إلى تفجير وخلية!

لقد ظلت ريحانة حوالي سبعة أشهر بدون محام. المحامي محمد التاجر تولى قضيتها وكان المحامي عبدالله زين الدين يحضر الجلسات، لم يكن مسموحا لها بلقاء محاميها ولا حتى توكيله. حتى حكم عليها بالسجن خمس سنوات، كان من الطبيعي أخذها إلى الاستئناف والاستئناف يجب أن يتقدم به محامي موكل من قبل ريحانة. في هذه المرحلة ساعدت الملازم "شمة سبت" في توكيل محام لها، وكانت متعجبة كيف لم يوكل لها محام طيلة 7 شهور، وكيف صدر الحكم وهي بلا محام.

في الاستئناف خفض الحكم في قضيتها الخاصة بـ(خلية الائتلاف) من خمس إلى 3 سنوات وبقيت قضية (الفورمولا) خمس سنوات فأصبح حكمها 8 سنوات، ثم أسقطت قضية الفورميلا وبقي حكم الثلاث السنوات.

في الزيارة: الدموع بدلاً من الكلام

يكمل علوي: احتاجت ريحانة شهرين حتى تستعيد قوتها بعد الحادثة البشعة التي تعرضت لها في مركز الرفاع، حرصتُ على حضور جميع جلسات المحكمة حتى وإن منعوني من الدخول أجلس في الخارج أنتظر، كل الزيارات كنت حاضرا معها، أول الحاضرين وآخر المغادرين، كنت متواجدا معها في كل الزيارات، ولها اتصالات يومين في الأسبوع، لم أتركها أبداً.

بعد أن صدر الحكم عليها بالسجن 10 سنوات، سألتني إن كنت أرغب في الزواج بأخرى وأنها لن تمانع ذلك، خاصة أن لدي ثلاثة أطفال ويحتاجون من يرعاهم، أجبتها : مستحيل!! حياتنا سنكملها معاً أنت وأنا وأولادنا. لا أحد غيرك مكانك.

ريحانة محبوبة جدا في السجن، هي بطبعها هادئة جداً ولا تتدخل في شئون الآخرين وهذا ما يجعلهم يرتاحون لها. وقد شاركت منذ أيام في مسابقة القرآن وفازت بالمرتبة الأولى في التجويد. نفسيتها تعبت عندما انتشر عندهم مرض الكبد الوبائي، كذلك أصابها تشنج عدة مرات فنقلت إلى المستشفى، أصبحت نوبات التشنج تصبيها بين فترة وفترة، هي لم تشكُ من أي مرض قبل دخولها السجن، وفي بداية اعتقالها أصبح نظرها ضعيفا، بعد فحض نظرها احتاجت لنظارة فقمت بشرائها لها وأدخلتها إليها وكانت المرة الأولى التي تلبس فيها نظارة طبية. لقد تلقت ضربا كثيفا على أذنها. أنا اعتقد بأن ريحانة تخفي عني بعض الأمور التي تعاني منها أحيانا كي لا تقلقني، كنت دائما أقول لها إننا نحبك وأن الناس كلها تحبك وسترين أن هناك الكثيرين ينتظرون خروجك من السجن، ولو تسمح إدارة السجن بالزيارة لرأيت العدد الكبير الذي سيأتي لزيارتك، كنت كنت احاول تشجيعها وتقوية عزيمتها.

لقد بكت ريحانة في أول اعتقالها فقط، لكن بعدها صارت تعاني من الاكتئاب فكنا نجلس معها في بعض الزيارات دون أي كلمة منها فقط دموعها تتساقط على خديها، هذه الحالة استمرت معها حتى وقت قريب، كانت تحادثني في الهاتف بعد الزيارة وتعتذر عما بدر منها. لقد تحسنت نفسية ريحانة كثيراً مع اقتراب خروجها من السجن.

حسين في غياب الأم: لا شيء يستحق

ابني الأكبر حسين كان متعلقا بوالدته كثيرا، كان ملازما لها في كل مكان تذهب إليه، وتأثر باعتقالها كثيراً. تزامنت فترة اعتقال ريحانة مع الامتحانات النهائية لأبنائي، أجلست أولادي حسين وعبدالله قلت لهم: لديكم أم تفخرون بها، لقد اعتقلت من أجل مستقبل الوطن ومستقبلكم، وعلينا أن ندعمها من أجل تحقيق هدفها هذا. كيف؟ عندما نحمل لها شهادات النجاح في الزيارة ستشعر أنها نجحت في المهمة التي خرجت من أجلها. قلت لهم يجب علينا كعائلة أن لا يتخلى طرف عن الآخر، علينا أن نبذل مجهوداً أكبر حتى نتخطى هذه المرحلة، كنت أريدهم فقط أن ينجحوا في دراستهم لنتجاوز هذه الفترة بالذات، على أن أستطيع ترتيب أموري في فترة العطلة الصيفية.  

كان أبنائي معتمدين على أنفسهم في الدراسة، لكن حسين ونظراً لتعلقه الشديد بوالدته، تراجع مستواه الدراسي كثيرا بعد اعتقالها، كنت أحاول أن أدعمه لكن لم يكن لدي الوقت لذلك. أنا أعمل في بتلكو وأجد صعوبة في الذهاب لمتابعة أبنائي في المدرسة، إجازتي يوم الجمعة فقط وهذا يشكل صعوبة لي. عندما أعود من العمل أبدأ في عمل البيت أقوم بالغسل والتنظيف، أغسل ملابسهم، أكوي ، أنظف. وبشكل يومي أقوم بإيصالهم إلى مدارسهم وإرجاعهم.

ربما من حسن حظي أنني أسكن في الطابق العلوي لبيت والدي. عندما أكون خارج المنزل يجلسون مع والدتي وأختي. والدتي أصبحت بمثابة والدتهم، حتى إن ابنتى الصغيرة زينب تناديها بـ " أماه" وكذلك ابني عبدالله، صارت أمي قريبة جدا من أولادي.

أنا من يقوم بتنظيف شقتي، حاولت كل من أمي وأختي معي كثيراً لكن لم أقبل أن يساعدوني، يكفيهم أنهم يقومون بتوفير الطعام لي ولأطفالي وتهيئة المكان لنا فهم الملجأ لهم. طوال اليوم أطفالي في الطابق السفلي، فقط عندما يحين موعد نومهم يذهبون للشقة، ابنتي الصغيرة تنام مع عمتها، وابني عبدالله وحسين ينامان معي بالشقة.

ابني حسين كان يمر بفترة المراهقة ما جعل وضعه أكثر صعوبة. كان يحتاج من يسمعه ويلبي مطالبه، حاولت أن أتعامل معه كصديق أتقرب منه، لم أتمكن من التركيز على كل الجوانب، لقد كان همي دراسته أولاً. ابني حسين قليلا ما كان يخرج، يتصف بالهدوء والصمت. بداية اعتقال والدته كان يتكلم كثيرا عنها، كنت أتفاجأ به ليلاً عندما يقول لي: "خلاص أنا سأذهب إلى المركز، يجب أن أخرجها من السجن، لن أترك أمي في السجن"، كنت أهدئه وأقول له: "بابا هي في المركز ليس بيدي ولا بيدك عمل شيء لها، هي ليست كفالة مادية ندفعها وينتهي الأمر". بعدها صار يميل إلى الصمت والعزلة.

ظل حسين مهموما دائما، قليل الخروج من المنزل، وعندما أحاول التحدث معه يصبح بمزاج عصبي جداً. بسبب غياب والدته يشعر بفراغ كبير، يفرغ طاقته مع أخوته، يتعارك معهم، ويثير المشاكل معهم ومعي، وكأنه يريد أن يفرغ غضبه لاعتقال والدته فينا، أتفهم شعوره. بالنسبة لي الأهم هو انتظامه في الدراسة، لم اهتم بشيء آخر، أنا يجب أن أكون الداعم لهم الأم والأب.

في إحدى المرات وقبل حوالي عامين تعرض إلى تشنج رغم أنه لا يشكو من أي مرض. يومها لم يتناول طعام الغداء، كان يستعد للخروج من المنزل مع صديقه، وقف ليغير ملابسه، كان معه صديقه، فجأة سمعت وكأن هناك شيء قد وقع على الأرض، وسمعت صراخ صديقه، أسرعت فتحت الباب فرأيته ممدا على الأرض، كان جسمه يرتعش، وكان يعض لسانه، لحظتها انهرت تماما، وشعرت بأنني انتهيت، حملته رغم إصابتي في ظهري، لحظتها لم أتمالك نفسي، كنت أصرخ بلا حواس أناديه: حسين حسين، أخذته إلى المستشفى، الحمد لله كانت مرة واحدة فقط، وهو الآن يداوم على شرب الدواء منذ عامين.

عندما حملت ابني أحسست أنه ضاع من يدي، كنت متيقنا أن الضغط النفسي الذي يعيشه هو سبب ما حصل له لحظتها. كنت أقول لولا دخول والدته السجن لما وصل بنا الحال إلى هذا المستوى. لو كانت والدته معه لتمكن من الفضفضة إليها. لكني هدأت نفسي ورجعت إلى تفكيري وسلمت أمري لله.

عندما تخرج حسين من الثانوية العامة رفض الذهاب إلى حفل التخرج. لم يجد الأمر مستحقاً ولا يرغب فيه. تم قبوله في المعهد وداوم لمدة 5 أيام فقط ثم انسحب. لم يقبل إكمال الدراسة، حاولت معه كثيراً وكذلك المعهد لكن دون جدوى. جوابه هو: "لماذا أدرس وهل سأحصل على عمل إذا درست. كل من يدرس لا يحصل على عمل فلماذا أدرس؟ لا شيء يستحق". عدم وجود والدته أثر فيه كثيراً وجعله يكره الدراسة ويميل إلى الانعزال.

كنت آخذ أولادي كل أسبوعين مرة لزيارة والدتهم لأني في كل مرة اضطر أن أخرجهم من مدارسهم وهي عملية مربكة ومتعبة، كانت مدة الزيارة نصف ساعة فقط وتضم أسرتي الصغيرة إضافة إلى أخوات ريحانة وعائلتها لهذا لا تكفي الزيارة لكي يتحدث كل منا فيما يريد.

ابني الثاني سيد عبدالله كان بعمر 12 عاما عندما اعتقلت والدته، شخصية مختلفة عن حسين، هو عاطفي جداً. كان يطلب مني دائماً: "ماما ستظل كثيراً في السجن، ادفع لهم مبلغا وأخرجها من السجن".

زينب في غياب الأم: شرود وتشتت

مشكلتي الأكبر كانت مع ابنتي الصغيرة زينب هذه الطفلة أثرت كثيرا على نفسيتي، كانت بعمر 3 سنوات عندما اعتقلت والدتها، هي في أوج حاجتها للرعاية المباشرة من قبل الأم والأب، لكنني لم أكن متمكناً من رعايتها بسبب وظيفتي. أيضاً لم تكن أختي موجودة حينها مع والدتي، ووالدتي الكبيرة في السن لا تستطيع رعايتها ومتابعتها. فاضطررت لإرسالها إلى بيت خالتها في سترة وكنت أراها فقط في الإجازات الأسبوعية والعطلة الصيفية. كان هذا صعباً جداً وقاسياً. لقد حرمت من الأم والأب معاً في وقت واحد. بل فقدت عائلتها كاملة. بعد أسبوع واحد فقط من اعتقال والدتها قمت بأخذها إلى بيت خالتها، كانت الروضة التي تدرس فيها في سترة قريبا من هناك.

في البداية لم تكن تدرك ما يدور حولها بسبب عمرها الصغير، كان الأمر بالنسبة لها نوع من الزيارات التي تعودت أن تقوم بها مع والدتها. لكنها بدأت تسأل: أين بابا؟ أين ماما؟ لم أحاول السؤال عنها في أول الأيام ما إذا كانت تنام براحة أم لا، كي لا أتعب ، كنت أعلم أنها تعاني، ابنتي زينب أحبها جدا، كنت انتظر مجيئها. لقد كانت نقطة ضعفي. كنت أنا من يقوم بالعناية بها عندما تأتي إلى البيت في الإجازة الأسبوعية.

بقت زينب سنة ونصف عند خالتها، كان الوضع الأصعب عندما أريد إرجاعها إلى بيت خالتها، كنا نجد صعوبة بالغة في ذلك لأنها كانت ترفض العودة، كانت تتمسك فينا بقوة، تبكي كثيرا، في كل مرة أرجعها كنت أعيش المرارة والألم، لا أقوى حتى على بلع ريقي، كان الموقف صعب للغاية، كنت اضطر أحياناً إلى تركها تلعب مع أبناء أخوالها ومن ثم أحاول الاختفاء وأترك المكان كي لا تبكي، بعدها طلبت من أختي أن توصلها هي إلى بيت خالتها، لم أكن أقو على رؤيتها وهي تبكي وتتشبث بي كي تعود معي.

بعد انتهاء مرحلة الروضة أرجعت زينب للعيش معنا في البيت، خاصة بعد أن جاءت أختي للسكن مع أمي. في الروضة وفي بداية سنواتها الدراسية بالمدرسة، لا حظت المعلمات شرودها الدائم وتعجبن كيف يكون لديها كل هذا الشرود مع صغر سنّها. في المدرسة لم تصدق المعلمة بأن زينب انهت الروضة، الآن آخذها إلى مدرسة خاصة تدرسها كل يوم مساء، وقد لاحظت مدرستها بالمدرسة أن زينب تطوّر مستواها كثيراً.

تقول عمتها التي تقوم بايصالها للمدرسة: تتأثر زينب كثيراً عندما ترى طفلاً برفقة والدته. تسرح كثيرا وتظل تحدق، كنت أرى دموعها بلا كلام، في أول يوم دراسي كانت جميع التلميذات برفقة أمهاتهن عدا ابنة أخي، لقد أثّر في ذلك كثيراً، يومها لم أستطع المكوث في البيت كنت أذهب إليها لأطمئن عليها كل ساعة.

عندما استرجعت ابنتي ارتحت نفسياً وشعرت كم كان قاسياً إبعادها عنا، شعرت بالذنب أني أبعدتها عن أخوتها وعن والدها إضافة إلى بعد والدتها، كان الأولاد معي وتحت عيوني أعرف ماذا يأكلون ومتى ينامون وماذا يحتاجون، لكن ابنتي الصغيرة كانت بعيدة عني. قلت لوالدتها بأن من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها أني باعدت زينب عني وعن أخوانها، كنت أحدث نفسي دائما يجب أن أكون الحلقة الأقوى التي ترعي هذه العائلة، سواء والدتي وأختي أو أولادي. الآن صارت ملازمة لعمتها التي تسكن معنا بنفس المنزل.

في دور الأم والأب معاً

حاولت القيام بدور الأم والأب معاً، حتى أحذية أولادي أقوم بمسحها وتنظيفها، حافظت على هندامهم وكأن والدتهم موجودة. يوم الجمعة وهو يوم الإجازة الوحيد بالنسبة لي هو يوم أعمال شاقة. أقوم بغسل الملابس منذ ليلة الجمعة، وبعد أذان الظهر من يوم الجمعة أجمعهم وأقوم بكي الملابس، وبمجرد أنتهي من مهمة كي الملابس اعتبر بقية الأمور سهلة، كان كي الملابس هو الأصعب، كنت أتعب في فصل الصيف أكثر من الشتاء لأن الملابس تزداد في فصل الصيف.

حافظت دائما أن تكون جميع أغراض أبنائي وملابسهم جاهزة لذا لم أتعرض لأي موقف شعرت فيه بالتقصير تجاههم، كنت فقط أتأخر على موعد عملي صباحا لأن الشوارع مزدحمة ولكي أستطيع إيصال أبنائي إلى المدرسة أصل متأخراً. في السابق كانت والدتهم توصلهم إلى المدرسة، والحمد لله بأن إدارة العمل متعاونة معي.

برنامج عملي اليومي هو كالتالي: أعود من العمل حوالي الساعة الواحدة والربع، أنتظر باص مدرسة ابنتي زينب الذي يصل 1:30 أقوم بأخذها إلى داخل المنزل إلى عمتها لتقوم بتغيير ملابسها، وخلال ذلك الوقت تكون والدتي قامت بإعداد سفرة الغداء. حوالي الساعة 1:50 أقوم بالخروج مرة أخرى لأوصل ابني عبدالله إلى المدرسة الصناعية للدوام المسائي، أرجع البيت الساعة 2:45، ثم أخرج لتوصيل ابنتي زينب إلى المدرّسة الخاصة، وبعدها أعود إلى البيت وأقوم بكنس وتنظيف الشقة وترتيبها.  

في العد التنازلي للخروج

ولأن ريحانة ستخرج قريبا صرت أكثف عمليات التنظيف في كل زاوية من زوايا الشقة، كنت قد بدأت التغيير في الشقة منذ اعتقال ريحانة، كنت أحاول أن أخلق جوا مميزا لأطفالي لكي لا يشعروا بالضجر لذا قمت بشراء غرف نوم جديدة لهم جميعاً. شقتنا عملت على تغييرها بشكل كامل لكني لم أخبرها أريدها مفاجأة. فقط غرفتها لم أشأ تغييرها أنتظر خروجها كي تختار بنفسها التغيير الذي تحب، قمت بشراء بعض الألبسة الخاصة بها والعطور وكل مستلزماتها تنتظر خروجها.

ابنتي زينب من اليوم صارت تحسب لخروج والدتها، حتى الزيارات كانت تطلب من معلمتها أن تتصل بي لكي آخذها للزيارة، كنت قد خصصت لهم كل أسبوعين مرة، لكن زينب تعرف موعد كل زيارة فتخبر معلمتها بموعد الزيارة الأسبوعية، وتبرر لها أنه ربما لن يذهب أحد إخوتها للزيارة وعليه ستأخذ هي مكانه. وبالرغم من أنها لم تكن من ضمن الأشخاص المحددين لصغر سنها لكنها تتذرع بذلك لكي آخذها لوالدتها كل أسبوع وليس كل أسبوعين. زينب الآن تجهز نفسها لخروج والدتها، تريد أن تغير مفرش سريرها وترتب غرفتها الجديدة التي لم ترها والدتها من قبل. صارت زينب تنسج أحلامها بعودتها إلى النوم في شقتها مع أخوانها، تتخيل والدتها تناديها مثل باقي صديقاتها للنوم ولتناول الطعام. تغيرت زينب كثيرا هذه الأيام تحسنت شهيتها للطعام.

ابني حسين وبالرغم من قرب خروج والدته لم يتكلم عن الموضوع بتاتا، أصبح يسهر كثيرا، حاولت أن أشغله بقراءة الكتب، آخذه معي إلى نادي الفروسية، فترة من الفترات صار يذهب معي إلى النادي بعدها ترك مرة ثانية. كذلك أنا لم أعد انتظم في نادي الفروسية الذي أعشقه كما كنت في السابق. صار همي الاعتناء ببيتي وأولادي.

بالنسبة لي السنوات الثلاث التي مرت علي بدون ريحانة تعادل 10 سنوات من عمري، إنها سنوات مريرة ومتعبة نفسياً وجسدياً، متعبة بكل ما لهذه الكلمة من معنى. لقد تغيرت كثيراً وتغير الكثير في حياتي وأولوياتي. في السابق لم أكن أحب الخروج إلى أماكن الترفيه مع أولادي، كانت ريحانة تتولى الأمر، الآن أنا من يقوم بهذا الدور وصار طبيعياً بالنسبة لي. الأعياد والمناسبات بدون ريحانة كلها بلا طعم ولا نكهة لها. في السابق كنا ننظم غذاء العيد في البيت هنا وتحضر العائلة جميعها. بعد اعتقالها لم نعد نفعل. يوم العيد عندما يسألني أطفالي عن المكان الذي سنذهب إليه أقول لهم النادي فليس لنا مكان سواه، كانت والدتهم تذهب معهم إلى بيوتات العائلة لكنهم حرموا من ذلك الآن.

يوم خروجها هناك طلب أن يكون استقبالها في سترة وفي مدينة عيسى، لذا قررنا أن يكون اليومين الأولين في سترة ثم بعدها في بيتها بمدينة عيسى، الآن سترة يحضرون لاستقبالها بزفة خاصة، بعض بنات عمومي يردن المبيت في بيت والدتي ليلة خروج ريحانة لكي يضمن أن يكنّ سباقات في استقبالها وليرافقنني إلى استقبالها. أنا رتبت نفسي لاستقبالها فقمت بأخذ إجازة من العمل.

ستخرج ريحانة وستحتاج إلى وقت لكي تعود كما السابق. لدي مشروع خاص كي أجعلها تتعافى مما عانته، سأرتب رحلة خاصة لنا لبلد طالما حلمت الذهاب إليه (العراق)، أريد أن آخذها إلى مكان لتخرج كل ما في قلبها من ألم، أريدها تبكي وتخرج ألم السنوات الثلاث كاملة كي تعود ريحانتي كما في السابق.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus