مريم أبوديب في ترقب (الأب): في حفل تخرجي كنت فخورة أن يُنطق اسم بابا بحضور نائب رئيس الوزراء ووزير التربية

مريم أبوديب خلال حفل تخرجها من المدرسة قبل أقل من عامين من اعتقال والدها
مريم أبوديب خلال حفل تخرجها من المدرسة قبل أقل من عامين من اعتقال والدها

2016-03-31 - 4:30 م

هذا هُوَ اسمُكَ ، فاحفظِ اسْمَكَ جَيِّداً !

لا تختلفْ مَعَهُ على حَرْفٍ

ولا تَعْبَأْ براياتِ القبائلِ ،

كُنْ صديقاً لاسمك الأُفُقِيِّ

جَرِّبْهُ مع الأحياء والموتى

ودَرِّبْهُ على النُطْق الصحيح برفقة الغرباء..

مرآة البحرين (خاص): "في حفل تخرجي من الجامعة، كنت فرحة جداً رغم غصة غياب والدي، كان سر فرحي أنني استطعت الوقوف على منصة التخرج بعد أعوام أربعة صعبة جداً، بحضور نائب رئيس الوزراء محمد بن مبارك آل خليفة ووزير التربية ماجد النعيمي، وجميع وكلاء وزارة التربية موجودون بالحفل، لقد نُطق اسم والدي أمامهم جميعا: "مريم مهدي عيسى أبوديب".  شعرت باسم والدي يضج في أرجاء القاعة. أحسست بالفخر وبابتسامة أبي تحيطني، أحسست بحضور أبي أمام كل هؤلاء".

هكذا تقول مريم ابنة رئيس جمعية المعلمين مهدي أبوديب الذي طالما أزعج اسمه وزير التربية ووكلاءه. في تجربة الخمس سنوات التي اعتقل فيها والدها أيقنت مريم أن اسمها ليس شيئاً آخر غير اسم والدها، ليس فقط لأنها تشبهه في شخصيتها كما تقول والدتها، ولا لأنها لا تختلف معه على حرف، لكن لأنها بقدر ما تكبر مع هذا الإسم، فإنها تدفع ثمنه أيضاً.

الأعمار لا تضاف إلى تواريخ الميلاد، بل تضاف إلى التجارب التي نعيشها في الحياة. في البحرين أطفال ومراهقون وشباب يعيشون أكبر من أعمارهم بسنوات، ليس لأنهم أرادوا ذلك، ولا لأنهم زهدوا في سني حياتهم الأجمل أو شبعوا منها، بل لأن الوضع السياسي المُقتم فرض عليهم ذلك، لقد مسّهم في آبائهم أو إخوتهم فجعلهم في وجه مسؤولية لم يكونوا مستعدين لها بعد.

تروي مريم تجربتها خلال الأعوام الخمسة التي قضاها والدها في السجن، وقضتها عائلتها في الانتظار والترقب والقلق: جميعنا استند إلى (الماما) خلال هذه السنوات، أنا وأخوتي وحتى أبي، في البداية كان الأمر متعبا للغاية بالنسبة إليها، كان يجب أن أكون قوية، لم يكن هناك خيار ثان أمامي، إما أن أصبح قوية أو نقفل على أنفسنا الباب ونموت، كان الأمر بالنسبة لي تحديا كيف أتجاوز هذا الوضع وأتغلب عليه. عندما أرى أمي حزينة كنت أحاول التخفيف عنها بأن حجم ما أصابنا هو قليل قياسا ببعض العائلات التي فقدت أبناءها، أقول لأمي إذا حكم والدي بعشر سنوات أو خمس فهناك من هم أصغر سنا منه حكموا مثله وهناك من حكم بالمؤبد. والدي سيكمل عقوبة الخمس سنوات لكن هناك عوائل فقدت أبناءها وآباءها للأبد، لا استصغر ما حدث لنا لكن بالمقارنة لما أصاب الآخرين أجد الأمر فارقاً.

لقد عشت حياتي كلها بعيداً عن السياسة، لم يكن في قاموسي اليومي كلمات مثل سني وشيعي، هذه مفردة ليست معرّفة عندنا إلا بشكل عقائدي بحت، لا مدلول اجتماعي لها، كانت صديقاتي المقربات من الطائفتين. كنت أعيش عمري الطبيعي قبل أن أجدني أمام فوهة مدفع كبير  دفعة واحدة، فصرت أكبر بأعوام. كبرت فجأة عندما شعرت أني الأخت الكبرى وأننا صرنا في وضع يحتم علي أن أتحمل مسؤولية أخوتي، صاروا هم كل حياتي، لم يعد هناك وقت عندي لأفكر صرت أعمل مباشرة كل ما يمكنني فعله. لهذا صاحبت أخي حسين في رحلته الأولى للدراسة إلى الهند كنت أشعر أنني مسؤولة عنه.

أصعب المواقف التي مررت بها مع أختي الأصغر في المرحلة الابتدائية، كان كيف أشرح لها بأن (البابا) دخل السجن لأنه (إنسان زين)، كيف أبرر لها دخوله السجن وقضاءه حكما لمدة 10 سنوات أو خمس سنوات لأنه إنسان يحب الخير ويعمل من أجل هدف سام. في الفترة الأولى من اعتقال والدي لم نكن نصطحب أختي الصغيرتين في الزيارات لتجنيبهما أثر المكان ومنظر والدي الذي لن يحتملوه.

وجدت نفسي مجبرة أن أظهر في الإعلام وأتكلم عن والدي وأتابع مع المنظمات. كانت التغريدات وسيلتي لأنقل كل شيء عن وضع (البابا). منعتُ من الدخول إلى المحكمة بعد أن صرت أنقل كل ما يحدث في محاكمته، لست ممنوعة من باب المحكمة فقط بل حتى الاقتراب من مبنى المحكمة ممنوع. أخذت على عاتقي إيصال مظلومية والدي وقضيته إلى العالم، هناك الكثير من الحملات التي أقيمت من أجله في بريطانيا وفي أمريكا. طوال 5 سنوات وقفت إلى جانبنا منظمات دولية نكن لها كل التقدير والاحترام، لقد كنت أكلّ أحياناً وأتعب لكنهم لا يكلّون، ندين لمنظمة الإمنستي وقوفها معنا، نشكر كل من كوفا وسعيد بومدوحة وآريل وشين عملهم الدؤوب معنا. أيضاً منظمة "هيومان رايتس فيرست" و"براين دوولي" ساندوني طوال السنوات الخمس الماضية بلا كلل.

لم أبك طوال فترة اعتقال والدي، لكني عندما شاهدته لأول مرة في المحكمة العسكرية لم أتمالك نفسي بكيت كثيرا كثيرا، وكأني أعوض 64 يوما عشتها قوية وصامدة. في 10 مارس 2014  وفي حادثة الهجوم على سجن جو تعرض والدي للوقوف طويلا رغم  أنه يعاني من رجله ولا يستطيع الوقوف، حرم من الذهاب إلى الحمام، والدي لم يكن يتحدث عما يحدث معه في السجن، لكن في أحداث مارس قال إنها أسوأ فترة مرت عليه طوال فترة سجنه بالمقارنة بما حدث له في القضاء العسكري وسجن القرين.

أتذكر في عام 2011، عندما سافرت إلى الكويت اشتريت إلى والدي علبة شكولاته كبيرة، بقيت لمدة عامين في الثلاجة، لم يرغب أي أحد بفتحها أو تناولها، حتى انتهى تاريخ صلاحيتها وتخلصنا منها. أتذكر والدي في كل لحظة في حياتي، مرت علي لحظات كنت أتناول فيها وجبتي وفجأة أتوقف أتذكر والدي كيف يعيش في السجن وكيف يأكل وهذا كاف ليجعلني أتوقف عن الطعام. لثلاث سنوات لم أكن أستشعر أي فرحة للعيد، كانت تمر الأعياد كسائر الأيام، لم أكن أشارك أحدا فرحة العيد، بل كنت أتعمد النوم في ذلك اليوم، أشارك أخواتي في اختيار ملابس العيد فقط لا أكثر، إلى أن قررت عائلة والدتي أن يحتفلوا بالعيد في منزلنا فصرت أشترك معهم.

مررت بمواقف احتجت فيها إلى والدي، بعض الأحيان كنت في اليوم الواحد أحتاجه لعدة مرات، بعض المواقف كنت أحتاج لسماع صوت آخر يوجهني غير صوت الماما. من أصعب الأشياء التي مرت علي خلال السنوات الخمس أني توصلت إلى مرحلة تيقنت فيها أني لا أستطيع الحديث مع والدي خلال الاتصال أو الزيارة، وبالتالي أنني لا أتمكن من إثارة أي موضوع أو نقاش معه حول أي جانب أحتاج لرأيه فيه إلا إذا كان بسيطاً وسريعاً، ذلك أن كل حديث يرتبط بسلسلة من الأحداث لا أستطيع سردها في هذا الوقت القصير، وفي الزيارة يجب أن أعطي المجال للجميع للتحدث. كان هذا أكثر ما يؤلمني، حتى وإن جهزت النقاط الضرورية التي سأتناقاش فيها معه، لا يكفي الوقت.

من الصعب أن تعلم بأن والدك موجود لكنك لا تصل إليه حين تحتاجه. من الصعب أن  لا أستطيع حتى أن أرفع الهاتف وأطلبه أو أنقل له ما أريد، كثيرة المواقف التي مرت علينا أنا والماما نحتاج استشارة البابا ولا نصل إليه.

لازمني البابا في جميع مراحل تخرجي من المدرسة، عدا تخرجي من الجامعة. ربما كنت أكثر حظاً من أخواتي، أختي طيبة تخرجت من الإعدادي لم يكن والدي معها، ليلى تخرجت من الابتدائي ولم يكن والدي معها، أدرك تماماً الحسرة في قلوبهن وعيونهن وهن يرين زميلاتهن في حضن آبائهن.

بعد أربعه أعوام صعبة جداً من حياتي أكملت الجامعة وتخرجت. صعوبة الظروف التي مررت بها خلال سنواتي الجامعية جعلتني أنوي الانسحاب من أحد الفصول الدراسية، ليس بسبب الوضع  المادي لكن بسبب وضع والدتي وأخواتي وأخي حسين.

بعد تخرجي وتقدمي للحصول على وظيفة، كان يؤلمني رفضهم لي، في البداية لم أكن أريد أن أصدّق أنه بسبب اسم والدي، لكن في إحدى المرات تأكدت أنه كذلك، فبعد أن أنجزت امتحان القبول جاء دور المقابلة الشخصية، سألني الشخص الذي قابلني: اسمك مريم أبو ديب، مريم ابنة من؟ فأجبته إني مريم مهدي أبوديب، قال لي مباشرة: إبراهيم خالك؟ كانت المرة الأولى التي أدخل فيها مقابلة للتوظيف وأسأل فيها عن اسمي، لم أستوعب في بداية الأمر سؤاله عن خال والدي إبراهيم، بعدها فهمت أنه ربط اسم والدي باسم خاله إبراهيم للتأكد، بعد انتهائي من المقابلة اتصلوا بي يخبروني برفض توظيفي رغم حصولي درجة عالية في امتحان التوظيف، لم أكن أريد التوصل لهذا القناعة بأنه بسبب اسمي يرفض توظيفي لكنه واقع عشته وأعيشه.

سيبقى اسمي هو اسم والدي، أنا فخورة به، لم أعبأ بما يعترضني بسبب اسمي رغم تألمي له، ولم أترك نفسي للفراغ أو الجمود، حاولت استثمار وقتي في الدراسة، درست بعض الشهادات الاحترافية، لقد انتهيت من شهادة وسأدرس الثانية الآن. اسمي بالعلم يصير أكبر.

الآن بدأنا العد التنازلي لخروج والدي، صرت أتناقش مع أخي هل نشتري له آي فون أم جلكسي، قمت بشراء (آلة صنع القهوة) لأن والدي يحب شرب القهوة وحرم منها طوال خمس سنوات، قمت بشراء حذاء له، اشترينا محفظة نقود خاصة له، بدأنا بشراء الملابس له، الهدايا الخاصة به التي حصل عليها طوال السنوات الخمس جاهزة وتنتظره، ما يشغلنا حاليا تجهيز الاحتياجات التي علينا توفيرها لعودة (اسمنا) الذي نشتاق أن نردده في كل وقت.. بابا..    


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus