في انتظار خروجه 4 ابريل.. زوجة مهدي أبوديب، هناك ثلاثة أشياء لم أنقطع عنها: حديث نفسي معه، حزني عليه، انتظاره
2016-03-30 - 9:58 م
مرآة البحرين (خاص): "الأسرة التي يسجن ربَّها تصير منكوبة.. كلّ الأسرة وليس فرد واحد فقط.. تصير أسرة غير مكتملة.. محطمة"، هكذا تعبّر (وحيدة القلاف) عن غياب زوجها (مهدي ابوديب) رئيس جمعية المعلمين، اعتقل على خلفية الأحداث السياسية في البحرين منذ 6 ابريل 2011، وحكم بالسجن 5 سنوات، وينهي مدة محكوميته أخيراً في 4 ابريل 2016.
السجن ليس عقاب المحكوم السياسي وحده، بل عائلته بأكملها معه، الجميع يصير محبوساً في أفق هذا السجن وفي ذلّ قيوده. لا نسأل كيف يقضي المحكوم سنواته داخل السجن فقط، بل نسأل كيف تقضي عائلته سنواتها كذلك؟ قد لا يكون وضع عائلة أبوديب هو الأسوأ، ربما أخف وطأة من وضع عوائل كثيرة تعاني أوضاع مادية واجتماعية صعبة، لكنها نموذج لمعاناة هذه العوائل وفقدها وحرمانها وعذاباتها، نموذج لنكبة الكثير من العوائل البحرينية منذ مارس 2011 حتى الآن، وسط وضع سياسي يزداد تأزماً، وعدد سجناء سياسيين يكبر يوماً بعد يوم، وأفق ميت.
كيف عاشت أسرة مهدي ابوديب محنتها خلال هذه السنوات، وكيف تعيش الأسر البحرينية التي يُغيَّب السجن ربّها قسرياً على خلفية أحداث سياسية؟ كيف تُسلب علامات الفرح وتصير كل مناسبة في الأسرة غصة أخرى؟ كيف تدير الزوجة شؤون أسرتها وحدها بعد أن كانت ترمي بثقلها على زوجها؟ كيف يفقد هؤلاء الشعور بالأمان والطمأنينة والراحة؟ كيف ترتبك مسيرتهم وتتعطل محطات حياتهم بسبب تغير وضعهم المادي والاجتماعي؟ كيف يكبر الأبناء فجأة ليجدوا أنفسهم مسؤولين بعد أن كانوا مسؤولاً عنهم؟
«مرآة البحرين» التقت وحيدة زوجة (أبوديب) التي فتحت آلام قلبها وآهاته طوال هذه السنوات الخمس. دخلت معها في تفاصيل المعاناة التي لم يسبق لها أن تحدثت حولها، ربما لأنها تشعر الآن أنه آن الأوان لترتاح، فقد قرب موعد الافراج عن (قلبها).
تويتر: مصدر خبرنا الوحيد
تقول وحيدة: فعلياً، لقد فقدت زوجي من 17 مارس 2011، لم نكن نعرف عنه أي شيء حتى اعتقاله في 6 ابريل 2011. لقد غادر المنزل بعد أن عرف أنه مستهدف. كان التواصل بيننا ضعيفاً جداً، تمت مداهمة منزلنا أول ليلة يوم 19 مارس، بعدها تكررت المداهمات في 29 و30. مرة واحدة فقط كنا داخل البيت، انتقلنا بعدها للسكن في بيت أختي بقينا معهم قرابة شهر.
عرفنا خبر اعتقال مهدي فجر 6 ابريل من خلال تويتر صحفي جريدة الوطن فيصل الشيخ. تأكدنا صباحاً. عشنا قلقاً كبيراً مع انقطاع أخباره. كانت مرحلة مريعة. لم أكن أستطيع اللجوء أو طلب المساعدة من أحد، مرت مواقف بي لا زالت أتذكرها، خلال فترة السلامة الوطنية، منعتني إحدى صديقاتي من دخول بيتها بسبب خوف زوجها الذي منعها من دخولي. لقد أثر ذلك في نفسي كثيراً. كنت فقط أريد أن أطمئن على زوجي المعتقل والمختفية أخباره، بعد أن أخبرني ابني أن زوجها أخبره بأنه أبوديب بخير. كان قد توارد خبر موت بعض المعتقلين. كنت أريد فقط سماع كلمة واحدة تريحني، كلمة واحدة كنت مستعدة لشرائها بثروة: أنه بخير. لفترة طويلة صارت الناس تخاف أن تدخل بيتي، تأثر أطفالي لم يعد أحد يأتي لهم أو يستطيعوا زيارة أحد.
كان أول اتصال له بعد 27 يوماً من اعتقاله. قال لي: "أنا مهدي، أنا زين" هذا كل شيء. كذلك علمنا بخبر أولى جلسات محاكمته من خلال تويتر المحامي السيد محسن العلوي الذي ذكر أنها في تاريخ 15 يونيو 2011 في المحكمة العسكرية. لم نتسلم أي إشعار من المحكمة حول بدء المحاكمة، لكننا توجهنا إلى المحكمة في ذلك التاريخ، وكان أول مرة نراه فيه بعد 70 يوما من اعتقاله.
ذهلت كثيراً وأنا أرى أبوديب يدخل قاعة المحكمة، كان هزيلا بطريقة مريعة، رأيت حجم رأسه وكأنه كرة صغيرة، لم أحتمل رؤيته على تلك الحالة. توالت محاكماته في المحكمة العسكرية، كنت خلالها أداوم بشكل شبه يومي في القضاء العسكري، وأتذكر كان هناك شخص اسمه ( خالد أبو عبدالرحمن) صار يقول لي: أنا أشفق عليك لكثرة مداومتك في القضاء العسكري ومتابعاتك اليومية. لقد ساعدني لمقابلة القاضي منصور المنصور، كذلك العقيد يوسف البوفلاسة، تحدثت معهم، لم أترك باباً إلا وطرقته. في الحقيقة لقد تعاطف معي كثيرون ممن يعملون في المحكمة العسكرية، ربما كان هذا طبيعياً في الظروف العادية لكنها لم تكن كذلك خلال فترة الطوارئ أو ما عرف بالسلامة الوطنية.
بعد فترة السلامة الوطنية جاء شهر رمضان، كنت قد قابلت العقيد (يوسف البوفلاسة) عدة مرات وسمح لي أخيراً بزيارة أبوديب عندما أخبرته بأني سأسافر للأردن للعلاج، كانت الزيارة في ليلة من ليالي شهر رمضان، ومن شدة فرحي باللقاء وبأنه سيسمح لنا بلقاء أبوديب شكرته بعدما حدد لي الوقت وأغلقت الهاتف، بعدها أدركت أن وقت الزيارة سيصادف وجبة الإفطار والناس صائمة وأنا وأطفالي سنكون صائمين، سألته: هل تسمح لنا بحمل فطورنا في الزيارة؟ فأجاب نعم أسمح لكم.
لم أصدق سماحه لنا بإحضار وجبة الفطور، في ذلك اليوم لم نكن نعرف ما نفعل، ماذا سنحمل معنا من وجبات، نحمل المشويات التي يحبها أبو حسين، نجهز العصير، وبالفعل حملنا فطورنا واتجهنا إلى القضاء العسكري، مهدي حينها كان سجيناً في القرين وجاؤوا به إلى الزيارة في القضاء العسكري. جلسنا معه في الاستراحة التي عادة ما يجلس الناس فيها، تناولنا الفطور معا، كم كان ذلك رائعاً بعد كل هذا الغياب، امتدت فترة المقابلة لساعة ونصف.
استمرت محاكمات القضاء العسكري حتى 13 أكتوبر، تحول إلى سجن جو، وتحولت قضيته إلى المحاكم المدنية. كان قد حكم عليه في القضاء العسكري بـ 10 سنوات. في يوم نطق الحكم كانت ابنتي خارج القاعة أنا فقط في الداخل، عندما صدر الحكم تجمدت أطرافي لم أستطع النهوض ونزل الحكم عليّ كالصاعقة. كنت أفكر كيف سيخرج وأبناؤنا أكبر بـ 10 أعوام. هذا يعني أن ابنتي الصغيرة التي كانت تبلغ حينها 9 سنوات سيخرج والدها وهي في 19 من عمرها. يا الله.. صرت فقط أحسب أعمار أبنائي وكم سيبلغون عندما يخرج والدهم من السجن، اختصرت كل ما سيحدث في أعمار أبنائي، كيف سينتقلون من عمر إلى آخر دون وجود والدهم.. كان انهياراً كبيراً بالنسبة لي.
عندما انتقلت القضية إلى المحاكم المدنية، كان الوضع طويل جداً ومرهق نفسياً. لقد تعبنا كثيراً خلال هذه الفترة أنا وابنتي مريم خصوصاً.
في إحدى الزيارات كان الطقس بارداً جداً. جاؤوا بأبو ديب بلباس السجن، كان يرتدي كمّاً قصيرا ونعال. لم نعتد أن نراه هكذا، لم نتمالك أنفسنا، منظر القيود في يديه آلمنا. صرنا نصارع حتى يتم السماح له بإدخال حذائه الطبي، أعطيناهم تقارير طبية حتى يتأكدوا أنه يعاني من ظهره، وبجهد كبير استطعنا أن نُدخل له حذاء. كذلك الأمر فيما يتعلق بتلقيه العلاج، تمكنا في نهاية الأمر توفير العلاج اللازم له في مستشفى السلمانية وكان يؤخذ إلى مواعيده في السلمانية، لكن هذا العلاج لم يستمر لفترة طويلة بدأنا معه في فبراير وانتهينا في سبتمبر، هم أوقفوا العلاج ولا نعرف ما الأسباب، لكن توقعنا أن السبب انتشار صوره في التويتر أثناء ذهابه لتلقي العلاج، فالناس تعرفه فتقوم بتصويره ووضع الصور في تويتر. منع من مواصلة علاجه رغم محاولاتنا الكثيرة. كل ما أمكننا هو إدخال بعض أدويته الخاصة بالأمراض المزمنة (الضغط والسكري) وذلك بفضل جهود ابنتي مريم وضغط المنظمات.
خلال السنوات الخمس الماضية جميع أبنائي مرّوا بمراحل انتقالية، ابنتي الصغرى كانت في المرحلة الابتدائية، ابنتي الثانية كانت في المرحلة الإعدادية، ابني حسين كان في الثانوية العامة، مريم كانت في السنة الثالثة بالجامعة، جميع أولادي كانوا صغارا على مواجهة الحياة، أو مواجهة حدث من هذا النوع، كانت كل هذه المسؤولية تقع على عاتقي بالدرجة الأولى ومريم بالدرجة الثانية كونها الأكبر.
حسين: الابن الذي صار رجل البيت
كان أول حدث مر علينا بعد اعتقال أبوديب هو تخرج ابننا حسين من المدرسة في العام 2011، في ذلك العام وبسبب الوضع السياسي العام لم لم تكن هناك أي مظاهر للفرح وحفلات التخرج، وكان هذا لصالحنا، لم تكن نفسياتنا مهيأة للفرح بأي شكل من الأشكال. فضلنا عدم وجوده في البحرين وبالفعل أرسلناه للدراسة في جامعة بالهند ورافقته أخته مريم في الرحلة الأولى.
لكن لم يكن الأمر سهلاً. شعرنا بافتقادنا لوجوده معنا. كنا بحاجة إلى رجل في البيت. هناك مواقف بحاجة لوجود رجل في البيت، لذا طلبت منه العودة من الهند ومواصلة الدراسة هنا في البحرين، سنة واحدة فقط قضاها بعيدا عني وجدت من الصعوبة مواصلة الحياة بدونه، وبذلك خسر سنته الدراسية تلك.
في مارس 2012، وبينما كان حسين في عامه الأول في الدراسة في الهند، كان الوقت صباحاً عندما فتحت عيني من النوم (عادة أترك باب غرفة نومي مفتوحاً منذ غياب أبوحسين)، لمحت رجل ينوي الدخول إلى غرفة ابنتي مريم، كان يرتدي (فانيلة) رصاصية اللون، أخذت مريم تصرخ: من؟ من؟ وفي هذه الأثناء ركض وهرب. احتجت وقتاً لأستوعب أن ما أراه حقيقة وليس حلماً، وما جعلني أتأكد أني لست في حلم أنني وجدت حقيبة يدي مفتوحة، كنت نسيتها في الصالة ذلك اليوم، ومحفظة النقود كانت للأعلى، ومبلغ من المال قد سرق منها. لقد دخل الحرامي من الباب الذي كسر من قبل قوات الأمن أثناء مداهمتها لاعتقال أبوديب، قمت لاحقا بإصلاحه. لقد غيرت هذه الحادثة مشاعري كثيراً، هزتني من الداخل، أشعرتني كم أن بيتنا أصبح متاحاً، بإمكان أي أحد يدخله ويقتحمه، فنحن بلا رجل، وهذا واحد من الأسباب التي جعلتني أطلب من حسين العودة.
غياب أبوديب من البيت وكل ما مررنا به استغرق مني وقتاً لاستوعبه. لقد امتنعت عن دخول المطبخ تماماً. أعود كل يوم من العمل وأشتري غدا جاهزاً وأحضره وأجلس مع بناتي على الأرض لآكل معهم. كنت أرى أن أي مظهر من مظاهر الحياة هو ترف. كيف نعيش وضعاً مريحاً وأبوديب في وضع غير مريح؟ كيف أقوم بأشياء هو لايستطيع القيام بها؟ تركت طاولة الطعام وأجبرت بناتي على الجلوس على الأرض. بل أكثر من هذا كنا نأكل الطبق نفسه كل يوم. كنت أريد أن أعيش نفس الظروف التي يعيشها أبو ديب في السجن.
كنا نتاول الوجبة بشكل حزين لأني أنا حزينة، لم تكن بناتي يستطعن الحديث معي لأن علامات الحزن كانت مرسومة على وجهي بشكل دائم، الآن عندما يسترجعون تلك الأيام يضحكون، لأنهما كانتا كل يوم عندما تركبان السيارة تسألان عن نوع وجبة الغداء اليوم فأجيبهما: دجاج مشوي وعيش، كل يوم لم أغير نوع الوجبة، وحتى يكون العقاب الذي أعاقب به نفسي مضاعفاً كنت أختار الدجاج رغم أننا لا نرغب به سابقا، امتدت هذه الطريقة لأشهر حتى ملت بناتي. امتدت هذه الوجبة من مايو 2011 وحتى مايو 2012، وحتى شهر رمضان ظللت على الحال نفسه وهو أول رمضان يمر علينا بدون أبو ديب، كانت وجبتنا صحن مشويات فقط لا غير.
عندما عاد ابني من الهند في مايو 2012، تفاجأ بحالنا، حتى ملابسي لم أكن اهتم بها في البيت، فجاء ابني حسين وقال: اسمعي، هذا المنظر الذي أنت عليه يتغير كامل، عليك أن تهتمي بلبسك في البيت، وعليك دخول المطبخ والطبخ لنا. كأنه أيقظني فجأة. وبالفعل مع عودة حسين دبّت الحياة في البيت من جديد.
السنة الأولى لاعتقال أبوديب بالذات، لم أكن أر النور في بيتي، كنت أرى البيت مظلماً حتى وإن كانت جميع المصابيح مفتوحة، في صعودي الدرج ونزولي أسمع وقع خطوات أبو ديب، صوت حذائه، صوته وهو يردد بعض المقاطع العزائية، كان عندما يصعد السلم يبدأ بالعزاء مع صوت حذائه كأنه إيقاع للطم الصدر، هذا قتلني، عام كامل وصوته هذا في رأسي.
مع عودة حسين كان علينا أن نبحث له عن جامعة، كنا نرغب بجامعة خاصة، وهذه الجامعات تكلف ماديا، لم أستطع تغطية مصاريف دراسته والبيت فأنا المصدر المادي الوحيد، لا أعرف أغطي متطلباته الدراسية أم متطلبات بناتي أم متطلباتي أم متطلبات السجن التي لم أتوقعها، المبالغ المادية التي أحتاج توفيرها والمتطلبات، وضعنا المادي كان معتمدا فقط على الراتب الذي أحصل عليه.
اتخذنا القرار بأن يدرس حسين في معهد التدريب تخصص الموارد البشرية، كنت أحاول كسب الوقت حتى أستطيع ترتيب أوضاعي المادية والمعيشية. كان علي خلالها أن أوفر له سيارة خاصة. التحق حسين بالمعهد وتخرج، وكان علينا أن نبحث عن جامعة يكمل فيها تعليمه بحيث لا ترهقنا مادياً. استقر رأينا على الجامعة العربية المفتوحة وفي نفس الوقت بدأت محاولاتنا للبحث عن وظيفة له حتى يساعد نفسه من جهة في الدراسة ويخفف الأعباء التي تثقلني، وبتوفيق من الله حصل ابني حسين على عمل بداية 2015، وفي هذه السنة استطاع دخول الجامعة. ما يعني أن ابني تأخر دخوله الجامعة 4 سنوات بسبب وضعنا إثر اعتقال والده.
مريم: الابنة التي أخرجت كوامننا
مريم ابنتي الكبرى عانت الأمرين، شخصيتها قريبة جدا من شخصية والدها، عندما كان أبو حسين معنا في البيت كنت كثيرا ما اعتمد على رأيه، كان الصديق القريب لي، اعتمد دائما على مشورته، بعد سجنه فقدت كل هذا، مريم عوضت جزء كبير من هذا الفقد، أصبحت ذراعي اليمين، هي من استشيرها، هذه الأزمة أخرجت كوامن لم نكن لنعرفها من قبل، هي من قامت بفتح كوامن شخصياتنا جميعا أنا وأخوتها، أعطتنا دروسا كثيرة هذه الأزمة علمتنا كيف نكون أقوياء، علمتنا المواجهة، مريم كان لها نصيب الأسد في هذا التحدي، في البيت بالنسبة لأخوانها كان لها نصيب الأسد، مريم شخصيتها قوية جدا، رأيها سديد جدا، لديها نظرة ثاقبة إلى الأمور، تستطيع أن تحلل تحليلات صحيحة، كل هذا اكتشفتها في شخصيتها ونحن في الأزمة، لذلك امسكت بها استندت عليها،
مريم هي التي أجلس معها وأتفاكر، هي من أتشاور معها، دائما التخطيط يكون معها، مريم كان لها دورا بارز وأساسي في قضية والدها، وفي نفس الوقت كان دورها أساسي في البيت، لذا لا أستطيع الانفصال عنها ولا ساعة، إذا لم تكن معي أتواصل معها عبر الهاتف، لا ننقطع عن بعضنا. مريم قامت بدور والدها بشكل كامل. في هاتفي قائمتي المفضلة أول اسم هو مريم اسميتها " مريم نونوة العين".
تخرجت مريم من الجامعة في 2013، كانت الفرحة الأولى لنا، كنا أنا ووالدها ننتظر هذه اللحظة. كنا معاً عندما تخرجت من المدرسة. وجاء موضوع حفل التخرج، كم كان مؤلماً. عدم وجود الأب في ذلك اليوم كان صعبا، كنت أشاهد الآباء وكل منهم جاء ليحتفل بابنه أو ابنته، وعندما يكون المتخرجون من سن مريم يكون الآباء من جيل والدها ووالدتها، كان هذا مؤلم للغاية، يتسرب إليك الإحساس بالوحدة، أن فرحتك مغتصبة. حملت لها باقة الورد، وإعلانا يحمل اسمها، وكل شيء كان عليّ وحدي. عندما تشاهد صور تخرج مريم من المدرسة بوجود والدها وتخرجها من الجامعة بدون والدها، تظهر واضحة الفرحة التي كانت تغمرنا في الصور الأولى كانت الصورة مكتملة، بينما الصورة الأخيرة غير مكتملة، هناك فراغ، في الحقيقة يوميا أقف وأتطلع في هذه الصور الموجودة في صالة منزلنا، أقوم بمقارنة تخرج مريم من المدرسة وتخرجها من الجامعة بشكل يومي، أقارن بين الفرحة المكتملة هنا والغصة المطبقة هناك. هناك مواقف كثيرة جدا حاولت ان أعوض فيها دور الأب، لا أعلم لأي مدى نجحت لكني حاولت.
دخلنا بعدها مرحلة توظيف مريم، صرنا نخاف من هذا الجانب، تقدمت ذات مرة مع تسعة أشخاص في إحدى الشركات، كانت مريم مميزة باجتيازها لامتحانات القبول بين زملائها، وعندما حان وقت التوظيف توظف زملاؤها وبقيت هي. بعدها طلب المدير مقابلتها، قال لها اعذرينا لن نستطيع توظيفك.
ذات مرة، تم قبول توظيف مريم في أحد البنوك، وظلت تنتظر كثيرا، كانوا يتعذرون بتوفير طاولة لها، جلست على مكتبها يوماً واحداً فقط، وفي اليوم الثاني سمعتْ لغطا كثيراً بين الموظفين، أحست أن هناك شيئاً غير طبيعي، اتصلت بي وأخبرتني أنها تشعر أن الشركة ستقوم بإنهاء توظيفها، وبالفعل، بعد أسبوعين من توظيفها، تعذر لها المدير بحجة ان الوظيفة نزلت عن طريق الخطأ، كان المدير متأثرا جداً لمريم، ووعدها أنه سيبحث لها عن عمل بنفسه. بقت مريم عامين كاملين بلا عمل. جميع زملائها حصلوا على وظائف إلا هي، كنا نعرف السبب: ابنة (أبوديب).
كنت أتألم من داخلي، كل يوم وأثناء خروجي للعمل أتألم لأجل مريم، ليست لأنها ابنتي فقط بل لأنها مريم ذات الكفاءة العالية والمهارات المتميزة. ولأول مرة أفصح بأني كل يوم وأنا ذاهبة إلى عملي في المدرسة، خطواتي بحذائي أحاول أن لا تكون رنانة وواضحة كي لا تسمعها مريم وتتأثر، كيف أن والدتها تخرج للعمل وهي جالسة في البيت، كان هذا مؤلم جدا لي.
السجن: أن تكون رهين مكالمة
كذلك ابنتي (طيبة) وحفلات التفوق في المدرسة وغياب الأب عنها، هذه المواجع التي أتحدث عنها الآن صارت حديث النفس، لا أكذب أنه طوال الخمس سنوات دائماً أنا في حديث مع النفس، حتى إن ابنتي الصغيرة عندما تعود من المدرسة بأحداثها اليومية، تبدأ بسرد يومياتها والدخول في تفاصيل التفاصيل، لكن بالنسبة لي أستطيع سماعها إلى وقت معين، بعدها أعود لعالمي ولحديث النفس.
أحدث نفسي هكذا: الآن سيتصل، عندما يتصل يجب أن أقول له عن هذا الأمر، علي أن أخبره عن وضع مريم، علي أن أخبره على التحولات التي حدثت في حياة طيبة وفي حياة ليلى، يجب ان أضعه في الصورة حول تغيرات البيت، أضعه في الصورة بالنسبة لتغيرات أولاده حتى لا يتفاجأ بهذه التحولات عندما يخرج من السجن، يجب أن أنقل له التغيرات في الساحة، أضعه في الصورة حول تغيرات الناس وتحولاتها..
كل ما يقع عليه نظري يكون حديثا بيني وبين نفسي، وهذا الحديث لم ينقطع طوال الخمس سنوات، في الثلاث سنوات الأولى كنت أحلم بمعدل مرتين في الأسبوع، كنت أحلم بأننا وأبو ديب نجلس مع أولادنا نأكل، أحلم وكأننا في السيارة كأسرة واحدة خرجنا في نزهة مع بعضنا، حتى السوق كنت أحلم بأننا مع بعض، لم تكن أحلامي عن وضعه في السجن وكيف يعيش بل عن حياتنا وكيف كنا نعيش، وطوال جلوسي أتحدث مع نفسي وأي شيء تقع عيني عليه أحدث نفسي به واسترجع الذكريات بواسطتها.
كنا قد بدأنا ببناء البيت مع بعضنا البعض شاركته في أدق تفاصيل البيت، عشنا فيه لمدة خمس سنوات فقط ومن بعدها اعتقل، لذا كل زاوية في البيت تمثل ذكرى بالنسبة لي. هناك ثلاثة أشياء لم أنقطع عنها طوال السنوات الخمس الماضية: حديث النفس، الحزن، الانتظار، هذه تقاسمتها مع نفسي. السجن يعني أن تصيري محكومة بجهاز تنتظرين منه مكالمة، هذا بحد ذاته سجن، فكرت بأن أعلق الهاتف في رقبتي حتى لا يبتعد عني نهائيا، فأنا لا أعرف في أي وقت قد يتصل، لذا أضعه في أقرب نفس لي، لا يفارقني لحظة. قبلها لم يكن الهاتف يعني لي شيئاً. العائلة التي يسجن ربّها تكون منكوبة، كل العائلة وليس فرد واحد فقط، تصير أسرة غير مكتملة، محطمة.
اكتشفنا يوم بعد يوم أننا مستهدفون في كل شيء، أبسطها موضوع دعم اللحم، عندما تقدمنا لطلب دعم اللحم قيل لنا أنتم لا يشملكم الدعم لأن رب الأسرة مسجون. حتى سوق العمل رفضوا أن يستخرجوا لي طلب الحصول على خادمة بسبب عدم وجود زوجي. طلبوا مني أن أجلب حكم المحكمة، وهناك في سجن جو لا يوجد موظف يساعد في الحصول على هذه الورقة. عندما نذهب لأي جهة حكومية، كل الأمور تتوقف.
الزيارات: الخروج من البئر عطشاناً
كانت لقاءاتنا بأبو ديب في السجن صعبة جدا ومتعبة، أنا أتعب كثيرا في اللقاء، وبالرغم من مرور خمس سنوات لكني لم أتعود على وضع السجن. نذهب ونعود بالغصة، خلال خمسين دقيقة فقط، ما هي الأحداث التي ممكن أن ننقلها إليه، من هذا الوقت يستقطع 15-20 دقيقة أسلم فيها الأمانات، عندما أدخل تكون العائلة محيطة به أولاده أخواله والدته أخواته، في هذا الوقت المتبقي ماذا يمكنني أن أقول، حتى لو أنني تكلمت كيف لبناتي الصغيرات أن يتكلمن، فقدنا التواصل بالرغم من محاولتي خلقه، الأمر في غاية الصعوبة.
بالنسبة لي الزيارة مؤلمة جدا، وكأني أرجع من بئر الماء عطشانة، قبل الزيارة نجهز أنفسنا لما سنقوله، لكن ما إن ندخل لا نستطيع أن نقول كل شيء، في كل مرة نرجع بحسرتنا، ما إن نركب السيارة حتى نكون في حالة عصبية ومزاجية سيئة. ابنتي مريم قالت لي مرة ماما ألا تلاحظين في كل مرة نرجع من زيارة البابا نكون في حالة نفسية سيئة.
أبوديب في كل زيارة كنا نرى روحه عالية جدا، لكن لم يكن هناك مجال لتوصياته، حتى هو نفسه يأتي إلينا وهو يحمل الكثير من الكلام لكن الوقت لا يسعنا، فقط كل منا يريد أن يملأ عيناه من الآخر لا أكثر من ذلك.
بعد مضي شهرين من بدء زياراتنا في سجن جو اقتنعت بأن هذا الرجل لن أستطيع ان أراه ولن أستطيع الحديث معه، ولا الجلوس معه، ولن أكون زوجة إلا عندما يعود إلى البيت، لذلك أخذت القناعة أن وجودي في الزيارة فقط لأراه بصحة وسلامة وأؤمن له أغراضه، وأرى أولاده يلتقون به، دائما كنت أردد: هذا ليس مكاني، هذا ليس مقامي. كنت أتأسى على نفسي أن أكون في هذا المكان، المضايقات التي أتعرض لها في التفتيش والاستقبال والأمانات، كل هذه ضغوطات عشتها خمس سنوات.
في عملي عانيت في بداية الأمر لأن مديرتي كانت شديدة، كنت أواجه صعوبة كبيرة في الخروج للزيارات، أحتاج أخرج قبل الوقت بثلاث ساعات حتى آخذ بناتي من المدرسة، كانت هذه معاناة كبيرة جدا. اكتشفت خلال هذه الأزمة أنني حتى لو حصلت على مساعدة من أحد فإن هذه المساعدة لن تدوم، وبطبيعة الحال كل يحمل همه ولا يستطيع حمل هم غيره.
التقاعد: تفرّغ من أجل الحبيب
تقاعدت من عملي قبل أشهر فقط، كنت أحتاج الاسئذان بشكل متكرر لبناتي وللزيارة. وسبب آخر هو أن أبو ديب سيخرج من السجن وأريد أن اتفرغ له، حتما سيكون بحاجتي كي يعود كما السابق، كلنا نعرف أن المعتقل عندما يخرج من السجن يكون متضررا نفسيا وجسديا، لذا علي أن أكون متفرغة له تماما، أريده أن يعود كما السابق. صحته ونفسيته هي الأهم عندي من أي مادة وأي عمل.
اليوم وأنا أعد الأيام الأخيرة لعودته، بدأت مشاعري تتغير، سمعت طرفة خلال الإذاعة فضحكت بصوت وأنا لوحدي بالسيارة، لأول مرة أضحك هكذا بعد خمس سنوات، مررت في السنوات الخمس الماضية بمواقف مضحكة كثيرة لكن لم تحرك ساكنا فيّ، لذا انتبهت لنفسي اليوم أن مشاعري بدأت تتغير.
بدأ العد التنازلي، وضعت في مخيلتي ماذا سأفعل ماذا سأجلب يوم الإفراج عنه، ما هي الضيافة التي سأقدمها، علامات الفرح التي سأزين بها منزلنا، كل هذه التجهيزات فكرت فيها ملايين المرات، وليست مرة واحدة فقط، جهزت البيت وغيرت فيه لتهيئة المنزل لاستقبال أبوديب، قمت بزيادة حجم المجلس لاستقبال الناس، أعيش في ترقب لتلك اللحظة التي يعود فيها أبو ديب إلى البيت.
يوم الاثنين 4 أبريل سيكون تاريخ خروجه، بقي أن أعرف هل وقت الخروج صباحاً أم مساء، لا يوجد وقت محدد، لقد هيأت نفسي لهذا اليوم، وصلنا للعد التنازلي، كنا نعد مع بعضنا هذه الشهور والأيام. نبرة صوت أبو حسين تغيرت، صار فيها حياة وأمل وحب، صرت أسمع صوته بطريقة أخرى، اليوم تغيرت مشاعري، كانت مشاعري الداخلية خط واحد كالقلب الميت، لكنها اليوم شيء آخر تماماً..