حين يكون السجن خلاصا: حكاية مصطفى محمد علي رضي، الطالب الذي تخرّج بنسبة 98.7% ثم سلّم نفسه

2015-07-13 - 11:26 م

"في السجن لا تقول انتهى كل شيء. في السجن تقول ابتدأ كل شيء، والبداية هي الحرية"

محمود درويش

مرآة البحرين (خاص): ما الذي كان يدور في خلد مصطفى وهو يسلّم نفسه؟ إلى أيّ حد كان يحسّ بالظّلم؟ هل كان يائسا أم كان ينظر إلى السجن بعين الأمل؟ وفي حين كان ينبغي أن يكمل إجراءات التسجيل للجامعة، وأن يحظى بعطلة مريحة، ورمضان مبارك، مع من تبقى من عائلته، كيف طاوعته نفسه أن يمشي برجليه إلى السجن، ولماذا؟

منذ 4 سنوات، ونحن نقصّ في "مرآة البحرين" حكايا الثورة. كلما ترد حكاية، نقول إنّها تختصر الظلم الواقع على هذا الشعب. مرّت حكاية الطفل إبراهيم المقداد، حكاية جهاد السميع، حكاية الشهيدة أم غازي، حكاية طيبة درويش، حكاية عبد المنعم منصور، حكاية الشاب عقيل عبد المحسن وحكاية رضا الغسرة، حكاية هيثم الحداد، حكاية الشهيد العبّار، حكاية الأستاذة خديجة سعيد، حكاية الطالب أحمد الطشّاني، وحكاية الطفل محمد المؤمن خبير صواعق التفجير، والكثير الكثير من الحكايات التي لا تنتهي.

كل حكاية تقول إن هذا الشعب يباد ببطء. يقتل، يسجن، يحاصر، يجهّل، يفقّر، يخوّف، يكفّر، يسترصد، يفتك به، يباح كل شيء فيه، وفي هذه الأثناء، يستبدل بشعب آخر، حتى لا تقوم له قائمة.

الحكاية اليوم هي حكاية مصطفى.

مصطفى هو نجل الأستاذ محمد علي رضي إسماعيل، أحد الرموز الـ 13، الذين اتّهموا بقيادة ثورة 14 فبراير، للإطاحة بالنظام الحاكم. رضي، هو ابن عم الأستاذ عبد الوهاب حسين، المتّهم الأول في القضيّة، والذي يعتبر أحد أهم خصوم النظام على مدى الـ 25 عاما الماضية.

حكم على رضي بالسجن 15 عاما، بناء على اعترافات باطلة انتزعت تحت التعذيب، وهو ما وثّقه المحقق بسيوني في تقريره (الحالة رقم 23): الضرب والسب والشتم والفلقة والصعق بالكهرباء والتحرش الجنسي والتهديد بهتك العرض والتبول في فمه والحرمان من النوم ومن دورات المياه، كان تعذيبا حتى الموت بكل ألوانه، سرده الأستاذ محمد علي في شهادة مؤثرة أمام محكمة الاستئناف، قال فيها إنّه تمنّى الموت حيناً بعد آخر ليخلص مما هو فيه.

انتهت مرحلة التعذيب، لكنّه لم ينته. ثمّة ظلم لا يمكن إلا أن يتراكم، ويشتد، ما لم تكن هناك قوّة قاهرة توقفه عند حد. تحت حكم السلطة المطلقة، يكون الظلم مطلقا، ويكون العدل مجازا يتحكّم في رؤاه صاحب السلطة وزبانيته.

مصطفى رضي 2

في يناير/كانون الثاني 2012، أي خلال أقل من سنة من اعتقال الأستاذ محمد علي رضي، اعتقل نجله قاسم، ضمن ما عرف بقضية "راية العز"، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات.

العديد من الرموز والمعتقلين السياسيين هدّدوا باستهداف عوائلهم واغتصاب بناتهم وزوجاتهم أمامهم، حتى بعد توقيعهم على الاعترافات. حالة التهديد باستهداف أفراد عائلة أي علم وطني باتت سياسة ممنهجة. هي محاولة يائسة لكسر الإرادة، ولضرب أقسى نموذج على الظلم الذي يمكن أن تناله عائلة أي رمز حتى لو كان شهيدا.

بالنّسبة للرموز الـ 13، فقد كانت هناك استراتيجية واضحة منذ البداية: لا تبقوا من أهلهم أحدا. اعتقل 3 من أبناء الشيخ عبد الجليل المقداد: مصطفى وجعفر ومرتضى، والأخير لا زال في السجن. واعتقلت زينب ابنة الحقوقي عبد الهادي الخواجة أكثر من 13 مرة، كما اعتقلت ابنته مريم قبل أن يفرج عنها بضغط دولي، ثم تحكم بالسجن غيابيا لمدة عام. واعتقل حسين ابن الناشط محمد جواد برويز، ثم أفرج عنه، وهو لا يزال يحاكم. ولا يزال حسين ابن الدكتور عبد الجليل السنكيس معتقلا، وكذلك أحمد ابن المعارض السياسي الرمز حسن مشيمع.

شعار النظام الحاكم في البحرين "هاتوا العصاة جميعا" وأبناءهم! وبالنسبة لأستاذنا، فلم تنحصر دائرة العصاة فيه وفي نجله قاسم. فبعد 4 سنوات من الظلم، اعتقل ولده مصطفى أيضا!

يصحبه ابن عمته، كان مصطفى يمشي قرب منزله في قرية النويدرات حين اعتقلته دوريّة شرطة في 14 أغسطس/آب 2013، واتّهم بالتجمهر! بقي مصطفى في السجن حوالي 20 يوما. أطلق سراحه، لكن قضيته بقيت في المحاكم، ثم حكمت عليه المكمة بالسجن 6 أشهر، وبعد الاستئناف خفّض الحكم إلى 3 شهور فقط.

مصطفى رضي

شاء الله أن لا يفوت مصطفى شيء من سنته الأخيرة في المدرسة. وتخرّج بتفوّق مع مرتبة الشرف: الأوّل على مدرسة التعاون الثانوية، بنسبة 98.7%. حضرت والدته حفلة تخرّجه، كانت الفرحة لا تسع الاثنين، لكنها "فرحة لم تتم" كما يقال.

صحيح أن بيت مصطفى لم يداهم، حتى يؤخذ لإكمال مدة سجنه، بعد تأييد إدانته. لكنّه الآن، بين خيارين: أن يخسر الدراسة الجامعية، أو أن يدخل السجن. إذا لم يدخل السجن، فإنه سيواجه مليون عائق أمني أمامه، وسيكون ملاحقا حتى وهو يسعى إلى حقّه في الابتعاث، ولو افترض جدلا أن جامعة ما ستوافق على قبوله طالبا، فإنّه سيبقى مهّددا بالاعتقال في أي لحظة، وبالتالي مهددا بخسارة جامعته.

لكي يكون حرّا، اختار مصطفى السجن. ذهب برجليه، رافعا رأسه عاليا، وهو يلوّح من بين قضبان مركز الشرطة، بشهادة تخرّجه: متفوّق ولكن إلى السجن!

المفارقة المثيرة للسخرية هي أن مصطفى كان أحد المرشّحين للحصول على بعثات ولي العهد للدراسة في الخارج، وربّما سيتسلّم في السجن رسالة شكر وتقدير من ديوان ولي العهد على مشاركته في البرنامج التحضيري!

بهامة عالية، سلّم مصطفى نفسه إلى مركز شرطة سترة، يوم الجمعة الماضي 10 يوليو/ تموز 2015 ليقضي بقية مدة حكمه "شهرين و10 أيام". اختار أن يباغتهم قبل أن يباغتوه. لا يريد أن يبقى لديهم حتى بداية العام الدراسي.

قد تكون آماله في الحصول على بعثة دراسية لتحقيق حلم طفولته بدراسة "الطب" قد تحطّمت، هو يعرف بأنّه محروم من البعثة بلا شك. لكنّه لم ييأس، هو موقن بأن الدراسة ليست وحدها طريق النضال.

ذهب مصطفى إلى مركز الشرطة، لا بورقة استدعاء، ولا بورقة الحكم، بل بشهادة تفوقه، لسان حاله يقول: هاؤم اقرئوا كتابيه!

السجن بالنسبة لمصطفى، تماما كما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش: بداية لا نهاية، هنا تبدأ حريّة مصطفى، وهنا يكون خلاصه.

شهادة مصطفى مصطفى

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus