التلغراف: تحالف غير متوقع يُشكَّل ضد داعش على المدى الطويل

2014-12-25 - 9:35 م

ديفيد بلير، صحيفة التلغراف

ترجمة: مرآة البحرين

قال هنري كيسنجر مرة إنه "لا يوجد أمة تنسحب للأبد". وخلال الانسحاب من الإمبراطورية، أمضت بريطانيا عقودًا وهي تغلق القواعد العسكرية النّائية، واحدة تلو الأخرى.

ومع ذلك، وصل هذا الغروب الطّويل إلى نهاية مفاجئة يوم السّبت عندما أعلن فيليب هاموند أنّ البحرية الملكية ستستعيد قاعدة دائمة مخصصة لها في البحرين.

بضربة واحدة، ألغت وزارة الخارجية فعليًا قرار "شرق السويس" المُتَخذ في العام 1968، عندما قررت حكومة هارولد ويلسون إغلاق كل قاعدة بريطانية في الخليج.

وبعد مرور ما يقرب من خمسين عامًا، يبدو نقض قرار ويلسون بالتنازل عن القواعد العسكرية قضية واضحة تفرض نفسها.

واليوم، يعجّ الخليج بمليارات الجنيهات النّاتجة عن الاستثمارات والتصديرات البريطانية، كما أنّه موطن لـ175 ألف مغترب بريطاني على الأقل. وأيّ أزمة مفاجئة في المنطقة قد تشمل البريطانيين، سواء شاءت الحكومة الحالية ذلك أم لا. فلماذا لا تكون القوات المسلحة في جهوزية تامة في حال الحاجة إليها، بدلًا من الانتظار لمواجهة أي حالة طارئة ومن ثم الرد بذعر؟

وعلاوة على ذلك، ستمول الحكومة البحرينية بناء القاعدة المسترجعة من قبل الملكية البحرية بكلفة تبلغ 15 مليون جنيه إسترليني، ما يعني أنّ وزارة الدّفاع ستكون فقط مسؤولة عن نفقات تشغيل القاعدة. وصفقة مثل هذه تسمح لبريطانيا ببسط نفوذها في منطقة حيوية بأقل التكاليف الممكنة.

وستكون القاعدة الجديدة في ميناء سلمان منشأة بحرية عسكرية بلا فائدة في الحملة الجوية الحالية ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). ولكنها ستسمح لبريطانيا بنشر مزيد من السفن الحربية في منطقة الخليج، بما في ذلك حاملات الطائرات الجديدة العملاقة، بمجرد دخولها في الخدمة في نهاية العقد الحالي.

على هذا النحو، سيتوفر للحكومات البريطانية المزيد من الخيارات لإظهار القوة العسكرية في المنطقة. وبما أنّه يمكن للناقلات إطلاق طائرات حربية وأيضًا طائرات من دون طيّار، فإن قدرة بريطانيا على قصف أهداف على بعد آلاف الأميال المُرَبّعة، ستتعزّز.

وقاد الجنرال السير سيمون مافال أغلب العمل التّحضيري لإعلان البارحة، والجنرال مافال سيتقاعد لاحقًا هذا الشّهر من عمله كمستشار لشؤون الشّرق الأوسط في وزارة الدّفاع.

وفي الكواليس، قال الجنرال مافال مجادلًا بحماس إن "قرار "شرق السّويس" اتُّخِذ بشكل خاطئ منذ الأساس ويستحق الإلغاء". ويبدو أن جهود هذا الضّابط، الذي يتحدث اللغة العربية، والذي أمضى ثلاثة أعوام مع قوات سلطان عمان البرية، آتت ثمارها.

والدّرس واضح: فيما تتعرض منطقة الشّرق الأوسط لعواصف جديدة، سيتم إلغاء القواعد السياسية القديمة. وقد تم التخلي عن تلك التي تفيد بضرورة انسحاب بريطانيا من الشّرق الأوسط يوم السّبت.

وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، تخلت أمريكا عن قاعدة سياسية أخرى عندما أثنى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بتحفظ على وصول الطّائرات الحربية الإيرانية إلى سماء العراق. وقد قصفت طائرتا فانتوم تابعتان للقوات الجوية الإيرانية أهدافًا داخل العراق، وقد تخلى السيد كيري عن معجم الإدانة الخاص به، قائلًا فقط إنه قد يكون لهذه الغارات الجوية "تأثير نهائي تتضح إيجابيته".

الحقيقة الرئيسية بالطبع هي أن إيران كانت تقصف إرهابيي داعش. فهذه الأخيرة، وهي حركة عنصرية سنية، تحتقر إيران التي يحكمها الشّيعة بقدر احتقارها لأمريكا: وهدفها المُطلق هو تدمير كليهما.

لذلك يجد قادة إيران الثّوريون أنفسهم على نفس جانب القوة العظمى التي يطلقون عليها لقب "الشّيطان الأكبر". فالطّائرات الحربية المُرسلة من قبل باراك أوباما، ديفيد كاميرون والرّئيس الإيراني حسن روحاني، تجوب المجال الجوي ذاته لضرب العدو ذاته في البلاد ذاتها.

وليس تقدم داعش السّبب الوحيد لتحطيم الفرضيات المريحة وتوحّد الأعداء القُدامى معًا، لكنه يُشَكل جزءًا كبيرًا من ذلك.

في هذه المرحلة، السّؤال الأساسي هو: هل سيكون لأي من ذلك نتيجة؟ وهل تتقدم الحملة ضد داعش في الوقت الحالي؟

منذ 8 أغسطس/آب، نفّذت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، ولا ننسى إيران، أكثر من 1000 غارة جوية ضد داعش. 594 غارة منها حصلت في العراق، بما في ذلك الغارتان الإيرانيتان، أما الـ 461 غارة الباقية، فقد استهدفت مراكزَ في سوريا.

لكن الحقيقة الأكثر أهمية في هذه الفقرة هي تاريخ بدء الحملة الجوية بشكل جدّي. في الثامن من أغسطس/آب، كانت داعش قد استولت على مناطق واسعة من شرق سوريا وشمال العراق. وفي هجوم في الصّيف، سيطر مقاتلوها على آلاف الأميال المُربعة، بالإضافة إلى مراكز سكانية رئيسية، بما في ذلك الموصل، وهي المدينة الأكبر في شمالي العراق، ويبلغ عدد سكانها 1.5 مليون نسمة.

لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ أمريكا وحلفاءها تأخروا في المشاركة باللعبة. وبما أنهم يُغيرون على داعش الآن، يمكن استخلاص نتيجتين من دون إثارة أي جدال. أولًا، مهما كانت التأكيدات الرسمية للتقدم، فالحقيقة هي أن داعش ليست قريبة بأي شكل من الهزيمة، ثانيًا، سيستغرق حل المشاكل التي هيأت ظروف صعودها أعوامًا- في حال افترضنا أنّ حلها ممكن أساسًا.

هناك بعض الأخبار الجيدة. في شهر يونيو/حزيران، بدا أن داعش على وشك الهجوم على بغداد، وكانت وحدات الطليعة في التنظيم على بعد ثلاثين دقيقة بالسّيارة من إربيل، المدينة الكردية في شمالي العراق. وقد نجحت الغارات الجوية الأمريكية السّريعة في إيقاف مسارات ذلك التّقدم المزدوج.

اليوم، لا تزال بغداد عرضة للتسلل، ولكن قد لا تكون قابلة لهجوم واسع النّطاق. في هذه الأثناء، لم تعد إربيل مهددة بخطر داهم. وعلاوة على ذلك، ساهمت غارات التحالف الجوية والهجمات المضادة التي تشنها القوات البرية االكردية والعراقية في إفلات عدة مراكز من قبضة داعش. لم يعد سد الموصل، وهو أكبر منشأة من نوعها في العراق، في يد داعش. وقد ابتعد مقاتلوها مرة أخرى عن المداخل الشمالية لبغداد.

ولم يعد أبو بكر البغدادي، الذي يلقب نفسه بـ"خليفة دولة إسلامية" جديدة، قادرًا على التّحرك بحرية في ولايته. في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني، أغارت الطائرات الأمريكية على تجمع لقادة داعش قرب الموصل، وأفادت التقارير الأولية عن إصابة البغدادي، على الرّغم من أن هذا يبدو أمرًا مشكوكًا فيه الآن.

بالتّالي، قُيّدت طموحات البغدادي الكبيرة بوضوح، مما سمح للسيد كيري بالإعلان في الأسبوع الماضي عن أنّ "سرعة التقدم التي أظهرتها داعش في الشهرين والنصف الماضيين قد أوقفت". هذا أمر معقول. للأسف، ينتهي الخبر السّار هنا. لأنه بدلًا من الانكسار تحت وطأة القنابل الأمريكية، ما تزال داعش تسيطر على مناطق في سوريا.

على وجه الخصوص، يوسع البغدادي سيطرته على المناطق ذات الأغلبية السّنية في البلاد، عادة عن طريق تهجير المتمردين غير الإسلاميين. وهو يتفادى عمومًا القتال مع جيش الرئيس السّوري بشار الأسد، ويكرس جهده الرّئيسي لانتزاع الأراضي من حركات التّمرد المنافسة. وسبب استطاعة البغدادي مواصلة التّقدم في سوريا بسيط: ليس هناك قوات على الأرض قادرة على مقاومته وراغبة في ذلك.

كان جيش السّيد الأسد، المنهك بسبب ثلاث سنوات من الحرب الأهلية، قد تجنب قتال رجال البغدادي حيث أمكنه ذلك. في هذه الأثناء، عانى الثّوار غير الإسلاميين، وبالأخص الجيش السوري الحر، الأمرّين، على أيدي النّظام وداعش على حد سواء.

يقول إميل حكيّم، وهو زميل وباحث أول في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إنّه ليس هناك "حليف جاهز في الميدان" في سوريا. وكخبير، يضيف أن "الاستراتيجية ضد داعش ستكون دائمًا صعبة، لكن الاستراتيجية التي توافقت عليها الولايات المتحدة مع شركائها في التحالف كانت معيبة منذ البداية".

تحاول أمريكا وبريطانيا الآن خلق حليف على الأرض. وتخططان لتسليح وتدريب وحدات مُحَنّكة من الثّوار السوريين في المخيمات العسكرية في الأردن وقطر. والهدف هو إنشاء قوة ثالثة من المتمردين غير الإسلاميين، قادرة على الثبات في وجه كل من داعش والرئيس الأسد.

وحتى لو أمكن تحقيق هذا الهدف، فإنه مع ذلك سيستغرق وقتًا، لا محالة. ووفقًا لاعتراف السيد كيري، فإن مدة هذه الحملة ستقاس بالسنين.

والوقت عامل أسيء فهمه غالبًا في هذه الحرب الاستثنائية. يوصف تقدم داعش بالـ"صاعق" في شمالي العراق، كما لو أن انتصارات البغدادي تساقطت في حضنه في غضون أيام أو أسابيع. هذا صحيح بما فيه الكفاية، إذ بدا أن المدن استسلمت واحدة تلو الأخرى لداعش، في تتابع سريع في شهر يونيو/حزيران، من تلعفر إلى الموصل إلى تكريت.

لكن المظاهر قد تكون خادعة. في الواقع، تسللت داعش إلى كل هذه المراكز السكانية قبل استيلاء مقاتليها عليها بشكل تام. في الموصل، على سبيل المثال، فرضت داعش الضرائب على المتاجر والأعمال في عدد من المناطق قبل السيطرة على المدينة في العاشر من يونيو/حزيران.

وقد التزم البغدادي أيضًا بدبلوماسية حذرة جدًا، فتحالف مع بعض من الجماعات المتمردة التي لا تُعَد ولا تُحصى في شمال العراق، وقمع آخرين بقسوة. وبالتالي، فإن تحدي داعش لم يبرز بغتة من قلب رمال الصحراء كزوبعة مفاجئة، بل هو نتاج أشهر، وربما سنوات، من التحضير والتخطيط الحذر.

وكدليل على ذلك، لننظر في حجم الهزيمة التي ألحقتها داعش بقوات الأمن العراقية. فمع مليارات الدولارات الأمريكية المُتدفقة، حشدت الحكومة العراقية واحدًا من أكبر الأجهزة العسكرية في العالم، مؤلفًا من 933 ألف جندي، أي ما يعادل 18 بالمئة من مجمل القوى الذكورية البالغة العاملة في العراق.

ومع ذلك، تمكنت داعش من تحدي هذه القوة بعدد بلغ أقصاه 30 ألف مقاتل. وفي حين اجتاح رجال البغدادي وديان دجلة والفرات، تفككت ببساطة أربع فرق عسكرية في طريقهم، متخلية عن مخازن ضخمة من الأسلحة والمعدات.
إعادة بناء هذه الفرق الأربع مشروع ضخم يمكن أن يستغرق إنجازه عدة سنوات. ولكن هناك مشكلة أكثر خطورة. ففي ترتيب يعكس البنية الطائفية في العراق، أغلب الجنود في قوات الأمن الوطنية هم من الشّيعة. في هذه الأثناء، اختار البغدادي بحرص السيطرة على المناطق السّنية في شمالي ووسط العراق.

ويوحي فرار آلاف الجنود الشّيعة المشاة بعدم رغبتهم في المخاطرة بحياتهم للقتال في مناطق سنية لا يعتبرونها تابعة لهم. ولم تكن روحهم  المعنوية لتساعد بسبب الفساد الذي ينخر عظم الجيش العراقي. ويزيد الضّباط بشكل روتيني استحقاقاتهم من خلال زيادة عدد الجنود العاملين تحت إمرتهم وسرقة الأجور المخصصة لهؤلاء الجنود الوهميين. وتُضَخّم أسماء ما لا يقل عن خمسين ألف من هؤلاء "الجنود الأشباح" حجم قوات الأمن العراقية.

بعض الضّباط الذين يطمحون إلى الارتقاء إلى رتبة جنرالات درسوا في كلية الأركان المشتركة العراقية، وهي كلية أعادت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا إنشاءها في العام 2005. لكن الآخرين يشترون ترقياتهم من خلال دفع رشوة محددة لشراء رتبة جنرال، تبلغ قيمتها 30 ألف دولار.

أُشفِق على الجنود العراقيين الذين وجدوا أنفسهم تحت إمرة جنرالات لا إمكانيات لهم، وقد اشتروا رتبهم العسكرية. وحين تصل جحافل داعش إلى التل، هل يمكنك إلقاء اللوم عليهم إذا اختاروا إطلاق النار والهرب؟

ماذا عن النّجاحات الميدانية الأخيرة شمالي بغداد، حيث تمت إعادة السّيطرة على بعض المدن في الأسابيع القليلة الماضية؟ ألا يُظهر هذا أنه بإمكان الجيش العراقي الفوز على داعش؟ للأسف، لم تتحقق هذه النّجاحات على أيدي الجيش العراقي، بل على أيدي الميليشيات الشّيعية التي تشكل العمود الفقري الخفي للدّولة العراقية. ففي خضم الأزمة الحالية، حشدت حكومة بغداد التنظيمات الطّائفية الشّيعية مثل فيلق بدر وجيش المهدي لسبب قوي مفاده أنّه لا يمكن الوثوق بالجيش ضد داعش.

هل ستكون الحكومة العراقية قادرة على السّيطرة على الأرض التي استعادتها؟ في النهاية، هذه المناطق يسكنها السّنة إلى حد كبير. ويبقى أن نرى ما إذا كان السّكان المحليون سيرحبون بـ "تحريرهم" على أيدي الميليشيات الشيعية.

يشكل هذا الانسلاخ العميق للأقلية السنية في العراق السبب الرئيسي لصعود داعش. ووفقًا لتوبي دودج، وهو أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، فإن التحديات التي يمثّلها "البغدادي" "أعراض عنيفة لمجموعة من العلل السّياسية هي أكثر اتساعًا وعمقًا".

ويضيف دودج أن سقوط صدام حسين سمح للأغلبية الشّيعية في العراق بالسّيطرة على الدّولة وبناء نظام سياسي يستند إلى "المناصرة العلنية للهوية الطائفية". وإلى أن يتم إعطاء السّنة حصة فعلية في الحكومة العراقية، من المُحتّم أن ينجر بعضهم إلى أسلوب داعش المتطرف.

في النهاية، سيُهزَم رجال البغدادي - وستكون كل من الولايات المتحدة وبريطانيا آمنتين- فقط عندما ينجز العراق تسوية سياسية يصالح فيها الأقلية السنية. وهذا مشروع يحتاج إنجازه عدة سنوات.

تتداعى القواعد السياسية القديمة في الشّرق الأوسط، مُدَمّرة حكمة قرار "شرق السّويس"، بين عدة قرارات أخرى. ولكن بعض الحقائق الأبدية ستبقى: القوة تستطيع تحقيق نجاح مؤقت فقط، وهناك حاجة إلى التّسويات السّياسية من أجل سلام دائم، والتّنافس بين السّنة والشّيعة يسبب المشاكل في المنطقة.

بالتّالي، هذه ليست بداية النّهاية للحملة ضد داعش. بل هي ربما بداية البداية.


7 ديسمبر/كانون الأول 2014
النّص الأصلي


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus