البحرين: إرباك الواقع وضرورات الإقليم
2014-12-08 - 4:42 م
إيمان شمس الدين
فَرَضَ نظام التوريث في السلطة عند مشيخات الخليج نظامًا صارمًا في الأفهام، وارتكازات جبرية الاتجاه في ذهنية الشعوب، ليس فقط من خلال نفوذه في السلطة بنظامه الرعوي الأبوي لما اعتبره دولة، وإنما أيضًا من خلال استحضار الماضي بحيثياته والاستفادة منه في الحاضر في محاكاة الفهم العام في أذهان الشعوب الخليجية، ذات الميول الدينية التقليدية الفهم والمراس، فشرعنت وجودها بنظرية ولاية الأمر من خلال مزاوجة الحكم مع رجال الدين من فقهاء البلاط.
وجاء اكتشاف النفط ليتحول إلى سلطة مالية مضافة ومحورية في التمدد الأخطبوطي داخليًا وخارجيًا، بشراء الولاءات والدفع باتجاهات تمكن وجوده في السلطة ونفوذه المستديم على رقاب العباد وثروات البلاد.
وللبحرين قبل هذا النظام الوراثي تاريخ مهم في ركب المنجزات الحضارية والثقافية، حيث اتسمت البحرين تاريخيًا بالسلم والتعايش التعددي، الذي واءم بين الاختلاف والتعايش، مما دفع قاطنيه عبر التاريخ لصناعة منجزهم الحضاري بالتلاقح الفكري والعقلي التعددي، الذي يراكم المعرفة ويجمع العقول بعيدًا عن النظام القبائلي حكمًا وفهمًا للواقع والدين.
لكن منذ مجيء المشيخات إليها تحولت لنظام وراثي في الحكم كان من متطلباته ومقتضايته خلق بيئة حاضنة للنظام الجديد، تمثلت في إعادة النظام القبائلي في الحكم، الذي يقوم بالأساس على المغالبة لا المشاركة، تحالفت فيه القبيلة مع فهمها القبلي للدين لتخترق حضارة البحرين بثقافة جديدة قائمة على الرعوية المشيخية القبلية في توزيع الغنائم والعطيات وفق الولاء لها وطاعتها، لا وفق الكفاءة ومدى خدمة وبناء الدولة.
وقامت ثورات كثيرة من أهل البحرين الأصيلين مطالبين بإصلاحات عديدة تمايزت بين مطالب خدماتية إلى مطالب سياسية تدعو للمشاركة في القرار والحكم.
وكانت مواجهة تلك المطالب والحراكات تتم بعدة طرق:
ـ المواجهة بالقمع والاعتقال والتعذيب
ـ المواجهة المسلحة والقتل
ـ النفي وسحب الجنسية وسلب كل حقوق المواطنة
هذا القمع الممنهج كان يرافقه تحالفات خارجية مع قوى نفوذ عالمي قائم على مقايضة البترودولار بالسلاح، فمن جهة تمكن وجودها في السلطة من خلال شراء سكوت هذه الدول وولائها السياسي ودعمها العسكري، ومن جهة هي دعم لشركات السلاح العالمية التي تعتبر أحد أهم موارد الاقتصاديات في العالم وتلك الدول.
فكان هناك قمع داخلي لكل محاولات الدمقرطة وسيلته الإرهاب الذي يقمع المطالبين من جهة، ويشتري ولاءات من جهة أخرى في الداخل تحت ضرب السوط والمصالح.
فمثلًا بريطانيا رغم عدم وجودها عسكريًا في البحرين، إلا أنها كانت تقدم دعمًا لوجستيًا في مواجهة المطالبات والفاعلين من خلال دعم السلطة عملانيًا في تقديم برامج وتدريبات في آليات مواجهة المتظاهرين وكيفية قمعهم وتقويض مسيرتهم المطلبية.
وأما أمريكا فحطت بأسطولها في البحرين بحجج سياسية وعسكرية أبرزها استقرار البحرين ودرء الأخطار في منطقة الخليج وإحراز الاستقرار.
ورغم محاولات التجميل التي أحدثتها العولمة وعملية اللبرلة من خلال الدفع نحو مزيد من الديمقراطية الشكلية ودفع البحرين لتصبح دولة شبه سلطوية، من خلال ديمقراطية مفرغة من أدواتها ومقوماتها وأهدافها، قادرة على تدجين المعارضة تحت شعار الشمولية للجميع، وتبقي النفوذ قائما للنظام المشيخي الوراثي الموالي للغرب. إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل نتيجة عدم تحقق الأهداف والإصلاحات المرجوة من المصالحة من خلال البرلمان ونواب الشعب، وكان لوعي الشعب دور فاعل في توضيح الإخفاقات ومخالفة العهود ومحاسبة النواب والسياسيين المشاركين.
وكانت النتيجة الطبيعية لسلب الحقوق والتمييز واكتناز ثروات الشعب هي الثورة مجددًا تداعيًا لثورات الشعوب التي حدثت في المنطقة .
الفارق في الثورة البحرينية عدة أمور مهمة عن باقي الثورات:
ـ سلميتها التامة.
ـ تعدديتها رغم كل محاولات مذهبتها.
ـ قدرتها التوثيقية للأحداث.
ـ استخدامها للأدوات الدولية حقوقيًا.
ـ استمراريتها وثباتها رغم العنف الممارس.
ـ عدد شهدائها الذين سقطوا وهم سلميين نتيجة عنف السلطة.
ـ لجوء النظام لدرع الجزيرة في كبح جماح الثورة وهي الثورة الوحيدة التي تستعين فيها دولة بدول مجاورة للتدخل في شؤونها الداخلية ضد شعبها.
ـ تأثيرها إعلاميًا وقدرتها على تشكيل رأي عام ضاغط ومؤثر في القرار.
ورغم كل محاولات النظام التجميلية حقوقيًا، خاصة أمام العالم الغربي، إلا أنه أدين أكثر من مرة وهو ما أكده تقرير بسيوني.
ورغم كل الإدانات التي تقدمت بها المنظمات الحقوقية ضد الانتهاكات الموثقة في البحرين ومحاولات الضغط التي مارستها تلك المنظمات على دولها لتدين ممارسات النظام، ورغم الملاحظات والتنويهات التي قامت بها بعض الدول، ومنها بريطانيا، ضد النظام البحريني وممارساته القمعية ضد المعارضة البحرينية، إلا أن ذلك لا يعني أبدًا أن الأنظمة الغربية في تعاطيها مع قضايا الشعوب العربية والخليجية خاصة تأخذ في الحسبان حقوق الشعوب على حساب الأنظمة، بل معيارها هو مصلحتها التي توفرها تلك الأنظمة لها.
وأما ادعاؤها وامتلاكها لمنظمات حقوقية أو ادعاء دعمها للحريات والحقوق والديمقراطية فهي مجرد واجهات فترينية استعراضية من جهة وأداتية من جهة أخرى، تحقق من خلالها مصالحها بالضغط على الأنظمة مع الإبقاء على صورتها الإنسانية المفبركة.
فبريطانيا التي تركت المنطقة عسكريًا منذ عام 1971م، عادت إليها من بوابة البحرين التي قرعتها أكثر من مرة لممارساتها القمعية ضد الثوار، بل تحتضن على أرضها كثيرًا من المعارضين البحرينيين وتفتح لهم أرضها وفضاءها، لكنها ذاتها تدعم النظام البحريني القمعي من خلال دعمه لوجستيًا وعسكريًا بيد، وبيد أخرى تلوح براية الحقوق والإدانات.
فراية الحقوق ليست راية إنسانية بل سياسية تستجلب منافع مالية وعسكرية في ظل أزمة اقتصادية خانقة في بريطانيا، يتعهد فيها الرئيس كاميرون بالخروج بأقل الخسائر. وكان أحد أوجه الخروج هي صفقات عسكرية تتمثل في عودته للخليج بقاعدة عسكرية بحرية مقابل دفع النظام البحريني مبلغ 13 مليون دولار، وصرح خلالها وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند أنها (تشييد القاعدة والصفقة العسكرية) مثال لتنامي شراكتنا مع شركائنا في الخليج لمواجهة المخاطر والتهديدات وإحراز الاستقرار في المنطقة.
وهو ما يعني أنها خطوة في طريق الألف ميل، وهي ستسدعي خطوات متلاحقة للتعاون العسكري تحت شعارات التهديد والأمن لشركائهم وليس لشعوب المنطقة.
فمن جهة تحدث بريطانيا قفزة في اقتصادها من خلال هذه العقود العسكرية، ومن جهة تحمي النظام البحريني تحت شعار التهديد وحفظ الاستقرار، فالتهديد هنا كلمة فضفاضة قد تحمل معاني وتشير لمصاديق كثيرة منها الثورة البحرينية كونها تطالب بإصلاح النظام السياسي، وبعضها يطالب بتغييره، والاستقرار أيضًا له مصاديق كثيرة وفق معايير بريطانيا المزدوجة، حيث أمام المال تتداعى وتنهار كل الشعارات الحقوقية الإنسانية وتصبح الثورة البحرينية خطرًا يهدد استقرار البحرين يدفعها وفق العقد المبرم لحماية البحرين ـوهنا المعني تمامًا حماية النظام البحريني ـ إلى التدخل لإحراز الاستقرار وهذا احتمال وارد جدًا، كون البحرين لجأت لدرع الجزيرة من قبل واستعانت بالخبرات البريطانية في تعلم آليات القمع والتعذيب.
فالواقع الداخلي المربك في البحرين والواقع الإقليمي الذي يفرض ضروراته يشعر النظام البحريني بخطر وجودي عليه، فاليمن والعراق بما يشكلانه من عمق جيوسياسي للبحرين يمران بمخاضات حقيقية للتحول الديموقراطي، ونجاح هاتين التجربتين كفيل بإحداث اهتزازات تغييرية في المنطقة، وإن على المدى البعيد.
والنظام البحريني أمام هذا الإرباك الواقعي الداخلي المستمر والمتماسك وهذا الاهتزاز الخارجي المتنامي تدريجيًا وإيجابيًا رغم دموية مشاهده يجد نفسه أمام خيارات متعددة تهدد وجوده في الحكم، مما يضطره للاستقواء من خلال ما يملكه من ثروات يستجلب بها ولاء الخارج واستقرار الداخل بالإرهاب والقوة.
والمعارضة البحرينية، أمام وحشية النظام وإصراره وتعنته وازدواجية المعايير عند كثير من الأنظمة الغربية، تقف أمام خيارات عديدة تهدد أيضا ثبات الثورة واستمراريتها بل سلميتها، خاصة بعد ارتفاع عدد الشهداء ومسؤولية الدماء التي سقطت على طريق الثورة وثقل هذه المسؤولية.
فالخيار الحقوقي يجب أن يوضع تحت مجهر النقد و التقييم والدراسة لمعرفة مدى نجوعه وكيفية تطويره كسلاح ضاغط على الأنظمة الغربية، والخيار الثوري التغييري يجب أن يقدم جديدًا داعمًا لثبات الجماهير على مطالبها من جهة وعلى سلميتها من جهة أخرى، خاصة بعد دخول بريطانيا للمنطقة مجددًا بعد طول غياب من بوابة البحرين الثائر.
وهي أيضا باتت أمام خيارات إقليمية تحتم عليها دعم نجاح المراحل الانتقالية التغييرية في اليمن والعراق، والدفع باتجاه تجهيز الأرضيات الشعبية في الخليج باتجاه مزيد من التغييرات كون نظام المشيخات رغم كل محاولات التدعيم للاستمرار بات آيلًا للسقوط استراتيجيًا.
فوجود معارضة في الخارج، فتح لها الغرب الأرض والسماء لا يعني تأييدًا من قبله، بل يعني احتواء ومن ثم تجسس، وهو ما يتطلب من المعارضة في الخارج أيضًا دراسة تحركاتها الخارجية بدقة وحذر وحرفية عالية تستغل الفضاء و الأرض بالقانون لتحقق آمال الثوار ومآلات الثورة.
ووجود معارضة في الداخل مع وجود كل هذه الأساطيل اليوم، الأمريكية والبريطانية ودرع الجزيرة، هي أمام تحديات حقيقية ومستحقة، تتطلب منها إعادة رسم تكتيكات الثورة واستراتيجياتها لتحقيق أهدافها، بالتنسيق مع شركاء الوطن والمطالب داخليًا وخارجيًا وشركاء المطلب التغييري في الخليج.