اللطمية البحرانية في أزقة الشرقية

2014-11-01 - 8:54 م

مرآة البحرين (خاص):

السعودية -أثير السادة

على غرار حلقات الذكر الصوفية، كانت جموع اللاطمين تسند بعضها البعض وهي ترسم حدود إيقاعها الدائري مع منشد المراثي، أو ما يعرف بـ"الرادود"، كل حلقة من تلك الحلقات تحيل أياد اللاطمين وأرجلهم إلى أوتار، إلى جسد موشوم برغبة الضياع في ليل المصيبة، هناك كانوا يختبرون للمرة الأولى هذه الطبيعة الدورانية في اللطم، الأعمار والملامح مازالت متباينة، ستلمح عمامة قد أنجزت سطورها من فوق المنبر وهي تكمل كتابة ما تبقى عبر الحلقة، ولحية بيضاء هناك تروي آخر ذكرياتها في ذاك المكان، فيما جيش اليافعين يطرز بأرديته السوداء ثوب المناسبة.

كان اللطم بين الجدران المغلقة أواخر الثمانيات يشبه أشعار الحماسة، يزداد اشتعالا باشتعال القصائد، كنا يومها نتدرب على الهامش تحضيرا لمشهد أدائي طويل، الذين عرفوا الطريق إلى سوريا في سنوات الهجرة كانوا أشد حماسة، وأشد التفافا حول صورة الحلقات، كانوا هم بمثابة القبيلة لهذا اللون من العزاء الوافد من هناك، والذي اغترف بعض صوره من عزاء أهل البحرين، لذلك وجدنا بعضهم يتوسط الحلقات كالمايسترو ليحرس الإيقاع.

اللطم عنوان المناسبة، لذلك يتسع الحدث لكل أسباب تسخينه وتصعيده، سلالم اللحن في قصائد الرادود ستضيق وتتسع وفق هذه الرغبة، ثمة حوار قابل للانقطاع بين جموع اللاطمين والرادود متى ما جنح بعيدا عن تسخين قصائده، فكل قصيدة لا تترك فعلها في أياديهم لا يعول عليها.

ستخرج جموع اللاطمين من الأماكن المسقوفة إلى البراحات، وسيخرج الرادود من المنابر إلى غرف الأستوديو، لكن الصوت الصاخب للطم سيظل دربا يقصدونه أنى اتجهوا، لذلك ستمعن الجموع في ذهابها إلى الصورة البحرينية من العزاء وهي تقترح المشي بين الأزقة بدلا من البراحات، مستعيرة مرة أخرى مفردات وتكوينات جماعية من هذا البلد الذي يفيض بفنون الحزن، فالقصائد التي انتظمت في بنائها اللحني على درجتين لحنيتين، باتت موزاييكا مفتوحا على ايقاعات متباينة في القصيدة الواحدة، باتت اللطمية الواحدة دراما مفتوحة على سعة الألحان، وسعة الإيقاع الذي سيربك الرادود ويربك المشاركين ساعة يبحثون عن لحظة اتزان لأياديهم التي تلوح في الهواء.

كان المشي الذي تسلل ليلا عبر وجوه ملثمة أول الأمر، وانتهى إلى مواجهات متكررة مع السلطة، قبل أن يترك طليقا تحت عنوان "غض الطرف" كان ذريعة لاستحضار النسخة البحرينية بكاملها، لاستنساخ الصورة والروح والأداء وكل شيء، حتى لم تعد هنالك مساحة للتقاليد القديمة للعزاء في هذا المكان، إلا ما وسعته أمنيات التذكر على هوامش الحدث بين حين وآخر.
هذا المشهد المستجد على الساحل الشرقي من الخليج أعاد هندسة الفضاء العاشورائي، فهو ببساطة دفع باتجاه تشكيل مزاج جديد لأناس وجدوا أنفسهم على تماس مباشر مع صناعة الحزن الموسمي وإدارته..للمآتم والحسينيات متن وهامش، تماما كما هي السيرة العاشورائية التي يغرف منها أرباب المنابر، لذلك جرت العادة على تهيئة تلك الأماكن لتناسب أحوال القراءة الحسينية في الأغلب، فيما الفصول الأخرى من الممارسات ملحقة بصور المكان، ومنها طقوس اللطم التي تنهض بعد ذروة النياحة في المجلس الحسيني، بالأمس كان الدارج أن يوصل الخطيب قراءته بفاصلة قصيرة للطم، فينشد في الناس أبياتا تحرك فيهم مشاعرهم وأيادهم اللاطمة، أو أن يتبرع واحد أو اثنان من محترفي الرداديات فيمسكوا بزمام الأمور، حتى يغتسل الناس بشيء من وجع المصيبة.

العزاء البحريني الذي وفد في أواخر الثمانينات إلى مدن وقرى القطيف كان سببا في دفع فاصلة اللطم إلى متن الحسينيات، فحتى جداول هذه الأخيرة باتت مهيأة لاستيعاب حصة طويلة من اللطم في الليالي الحاسمة، باتت وجوه هذه الأماكن خليطا من قراءة ولطم، حتى وصلنا لاحقا إلى أن تتقدم صورة اللطم على صورة القراءة في الحسينيات تحت عنوان المواكب باعتبارها كيانات اجتماعية مستحدثة لاستيعاب الممارسات المضافة إلى مواسم الحزن.

هذا التمركز الجديد والدخول إلى المتن لم يكن خاليا من الأسئلة التي تتصل بقيمة الرادود الاقتصادية، فرغم الامتيازات الاجتماعية التي لحقت به، والأوصاف التي ترغب في إضفاء مسحة تبجيلية لهذه الفئة، كالملا والحاج والشيخ وخادم الإمام، إلا أنها لم تترجم محليا إلى امتيازات اقتصادية، كما هو الحال في البلدان المجاورة، مازال الاتجاه المسيطر هو نموذج "فاعل الخير"، أي أن مشاركة الواحد منهم لاتدخل في الحساب الرياضي، وإنما يجري إدراجها في خانة التطوع والخدمة المجانية، وهو ما يضمر نوعا من التراتبية الاجتماعية داخل المناسبة، ويشير إلى الارتباك الذي يعتري إدارة هذا النشاط الديني عموما.

ستظهر على السطح بين حين وآخر علامات على انزعاج الرواديد من هذه القسمة، خاصة مع تحول الصنعة إلى ممارسة أكثر تنظيما، من كتابة الشعر ومرورا بالتلحين وحتى التأدية، ومع وجود قيمة اقتصادية رمزية لأقرانهم في البلدان المحيطة، تتباين ومكانة الرادود، ومساحة حضوره، وتصبح المسألة مدعاة للانقسامات أحيانا، حيث يجري استضافة الرواديد من البحرين والكويت في شكل من أشكال الدعاية والتسويق للموكب/المأتم، مقابل مبالغ مالية تتراوح بين 1000 دينار و2000 دينار للمشاركة، بل هنالك أحد الرواديد الكويتيين الذي يشترط 1000 دولار كمقابل للاستضافة في أي مأتم خارج بلاده.

هذا الموقع الجديد للرادود المحلي لم يشفع له بعد أن يستقر في متن المشهد بالمعنى الحقيقي، وأن المشهدية الدينية تظل وفية لعنوانها الأساس وهو القراءة الحسينية، لتظل هذه الصورة من التأرجح دليلا على استمرار هذا الفصل بين المتن والهامش، وأن محاولة توسيع هذا النسق التعبيري في الممارسات العاشورائية ستبقى تذكرنا بحداثة هذه التجربة، وانشطار النظرة الاجتماعية تجاه قيمة وجودها.

أشياء كثيرة ظلت خارج دائرة الحسم في تقويم تجربة العزاء الجديدة، ما يجعل من الجدل حولها فعلا مستمرا، ومفتوحا على أسئلة عدة، وفي واحدة منها أحوال القصيدة العاشورائية.. فكربلاء التي تبدو في تمثلاتها الطقسية أقرب شيء لشكل المرافعات السياسية، من الخطبة إلى القصيدة إلى تحولات المكان في أيام المناسبة، هي مثقلة بأسئلة ممتدة من عمق التاريخ حول الحق والباطل، حول الظلم والعدل، وحول النصر والهزيمة، لذلك لا تخلو لطميات الرواديد من تلك الشحنة السياسية، غير أنها مع موجه العزاء البحريني ستمضي إلى التشابك مع يوميات السياسة في الحياة المعاصرة، أي أنها ستخرج من نص كربلاء إلى نص الحياة، وستجعل من جسد المناسبة ساحة لكل التجاذبات السياسية.

هذا ما يحول رواديد البحرين في لحظات الصراع إلى أبطال شعبيين، ويحول القصيدة الحسينية إلى منشورات سياسية، تفيض بالسجالات السياسية أكثر مما تفيض من الشعر وجمالياته، وتكشف عن طبيعة التجاذبات الاجتماعية في الوسط المتدين ذاته، وهو ما توثقه تسجيلات متداولة لمشاهير الرواديد هناك، كالأكراف والدرازي وسهوان والبلادي.

لم يغفل الذين حملوا أجواء العزاء البحريني إلى الطرف الشرقي أواخر الثمانينات هذه الملامح، غير أن المساحة المتاحة لتوظيف العزاء ايديلوجيا بدت أضيق بغياب السلوك الثوري عن الشارع، وانصراف الناس إلى شكل من أشكال الهدنة مع السلطات التي كانت تراقب هذها التمدد في الممارسات العاشورائية بكثير من الحذر.

لم يكن متاحا تفريغ الكبت السياسي عبر قصائد العزاء كما هو الحال في البحرين، كان التقليد الاجتماعي المحافظ سيد الموقف، وسيد السلوك الديني الذي حاول إدغام الاحداد السياسية في العزاء لكن عبر أشرطة الكاسيت وفي تسجيلات بدت بعضها مجهولة المصدر، غير أن هذا لم يمنع أهل الصنعة من ارتياد الموضوعات الاجتماعية، ومقاربة القضايا السلوكية والأخلاقية عبر قصائد العزاء، واستثمارها في التحشيد للتيارات الاجتماعية التي كانت في أوج صراعها آنذاك.

بشكل عام خلت القصائد العزائية في المنطقة من الدسم السياسي الذي عرفه المشهد البحريني، إلا في حالات قليلة، وحتى الأصوات التي جربت الخوض في ذلك، عادت لتعلن تعلقها العاطفي بصاحب المصيبة، وترفع راية مناوئة، ترفض مزاحمة أي شأن يومي لشأن القضية الحسينية وأبطالها، وهذا ما سلب ميزة النضال السياسي من صورة الرادود المحلي، وترك المشهد برمته بلا أبطال شعبيين، ليبحثوا عن بطولات أخرى خارج هذا المشهد.

 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus