ملف القضاء في البحرين، المحكمة الجنائية الرابعة: مشنقة المُشرّع (5)

2014-07-10 - 6:47 م

"العدالة تخضع للموضة مثلها مثل الفتنة.."

مرآة البحرين (خاص): في رواية "الشيطان والآنسة بريم"، تتفاجأ القرية الصغيرة بمشرِّعها الجديد (أهاب)، وهو يستقدم نجارين من قرية مجاورة، ويعطيهم تصميما سرِّياً يعملون عليه. بعد أيام متواصلة من العمل، كان نصبا ضخما قد تشكل وسط الساحة، وقد حُجب عن الأنظار بغطاء كبير.. في اليوم الأخير، دعى المُشرِّع سكان القرية للاحتفاء بنصب القرية الجديد. وقف الجميع مترقبين ومتحفزين لمعرفة وجه قريتهم الذي ستعرف به منذ الآن فصاعداً، فالنصب الذي يتصدّر المكان هو علامة ذلك المكان. كان أهل القرية متحمسون لرؤية علامة قريتهم الجديدة.

وقف المُشرِّع (أهاب) قبالة أهل القرية الذين خرجوا عن بكرتهم، وبحركة احتفالية، ودون أية خطبة تمهيدية، جذب الغطاء عن النصب التذكاري. تسمَّر أهل القرية واجمين في أماكنهم. لم يكن النصب سوى منصّة مشنقة كاملة التجهيز، مع حبل وفتحة أرضية، وقد طُليت بشمع النحل لكي تقاوم الزمن.

ووسط حالة الذهول التي جمّدت أهالي القرية في أماكنهم، وقف المشرّع يقرأ قوانينه الجديدة، وبعد أن أنهى قوانينه، حذّر أهالي القرية إما الالتزام بها أو المغادرة إلى قرية أخرى. يكتفي بهذا الإعلان. لا يضيف كلمة واحدة. ثم يغادر الجميع تاركاً إياهم وسط وجوم ورعب كثيفين.

صار أهالي القرية مكرهين جميعاً على النظر إلى المشنقة الواقفة وسط الساحة وهي تحملق في أعناقهم طوال الوقت، وصارت موضوع حديثهم وعينهم المرتبكة وموضع تلمّس رقابهم. في كل شيء يرى الأهالي مشنقة تحملق. مع الوقت استحالت شجاعة المتمردين إلى خوف. بقيت المشنقة في مكانها عشر سنوات. بقي الخشب صامدا، لكن الحبل استُبدِل مرارا.

لم تُستعمَل المشنقة طوال تلك المدة، كان وقوفها المنتصب في وسط القرية، كافياً للتهديد حد الضرب بيد من حديد، على كل من تسوّل له نفسه مخالفة قوانين المشرّع (أهاب). صارت في داخل كل واحد من أهل القرية مشنقته الخاصة، التي تجعله مطيعاً وتجعل المشرِّع أهاب مهاباً. غادر البلدة من غادر، والتزم باقي الأهالي بقوانين (أهاب) الجديدة.

يمكننا أن نقول، إن "المحكمة الجنائية الرابعة" التي نصبها المشرّع (الملك) في يوليو 2013، هي ذاتها مشنقة المشرّع (أهاب). وإن كان كل (القضاء البحريني في شقّه السياسي لا يعدو أن يكون مشنقة السلطة المنصوبة، فإننا نخص هذه المحكمة، لأنها استحدثت خصيصاً، وحديثاً، من أجل دور محدد موكول إليها، هو عينه دور مشنقة المشرّع أهاب. ثمة فرقان اثنان بين المشنقتين، الأول أن المشنقة (النُّصب) لم تُفعّل، بينما تم تفعيل مشنقة (المحكمة الجنائية الرابعة) بحدها الأقصى كما سنرى. والفرق الثاني أن المشنقة النُّصب تمكنت من السيطرة على أهالي القرية وأحالت شجاعة المتمردين منهم إلى خوف، بينما الثانية، ورغم كل أحكامها التي صدرت في حق المعارضين السياسيين والمحتجين والتي وصلت إلى الحكم بالإعدام والمؤبد وأحكام تجاوزت عند البعض 100 عام من السجن، لم تتمكن من لجم الحراك الاحتجاجي في البحرين أو إيقافه.

قدّمنا في الحلقات السابقة سياق التصعيد الأمني الذي أُنشأت فيه "المحكمة الجنائية الرابعة"، ففي 2013 صار توجه السلطة محسوماً بما أسماه رئيس الوزراء "اجتثاث" الحراك الاحتجاجي الشعبي، وراح يكرّر في لقاءاته: "البحرين ستطوي قريباً صفحة من تاريخها وتبدأ أخرى"، تعتقد السلطة أن الطريق إلى ذلك يكمن في "تغليظ الأحكام" الصادرة في حق المحتجين و"تشديد العقوبات"، و"المضي دون تردّد في تضييق الخناق" على الحراك الاحتجاجي الشعبي وصولاً إلى "الاجتثاث".

كانت المحاكم الجنائية في البحرين قبل 2010 اثنتين، الأولى والثانية فقط. في 2010 تم تأسيس المحكمة الجنائية الثالثة لتغطية كم القضايا السياسية الأمنية المتزايدة بسبب الاحتجاجات في تلك الفترة. عرفت الثالثة بأنها من المحاكم الشديدة. نظرت في عدد من القضايا الكبيرة حينها منها ما عرف بقضية 14 أغسطس 2010 وما عرف بقضية تفجير الديه. لم تستطع هذه المحكمة الانتهاء من جميع القضايا التي كانت منعقدة لديها بسبب أحداث 2011 وما تبعها من الإفراج عن المعتقلين السياسيين. عادت بعد فترة السلامة الوطنية وكانت معظم القضايا المرفوعة إليها قضايا جنح.

بتحويل قضايا الجنح (تجمهر، إغلاق الشوارع، حرق إطارات، مولوتوف) إلى قضايا جنائية (إرهاب)، لم يعد ممكناً للمحاكم الكبرى الجنائية 1-3 استيعاب الأعداد الهائلة من القضايا التي يتم تحويلها إليها. كما أن القضايا الجنائية التي تتولاها هذه المحاكم كانت تستغرق شهوراً حتى إصدار الأحكام. صارت الحاجة ملحة لإنشاء محكمة جنائية جديدة تحقق الأغراض التالية:

  1. تقديم أكبر عدد من النشطاء والمحتجين إلى المحاكمة، واستيعاب الكم الهائل من القضايا التي تتكاثر بشكل يومي.
  2. إصدار أحكام قاسية ومشدّدة تجاه النشطاء والمحتجين تصل إلى حد الإعدام.
  3. تسريع المحاكمات وإصدار الأحكام القضائية على النشطاء والمحتجين في فترة قياسية.
  4. تثبيت/إثبات أن من يتم التعامل معهم من المحتجين هم ارهابيين.
  5. إنذار النشطاء والمحتجين الآخرين، بما سيؤول اليه مصيرهم من أحكام مغلّظة، في حال استمرار نشاطهم وحراكهم.

تحت هذه الأغراض، أُنشأت المحكمة الجنائية الرابعة التي بدأت أولى جلساتها في 10 يوليو 2013. أقر مجلس القضاء الأعلى تشكيلها لمحاكمة النشطاء السياسيين وبالأخص محاكمة المتهمين في تنظيم 14 فبراير. يعتبرها محامون وقانونيون بأنها إعادة العمل بمحاكم "الطوارئ"، رغم الأزمة الكبيرة التي أثارتها المحاكم العسكرية فترة السلامة الوطنية، والتي لطخت سمعة النظام وأدانته في جميع المحافل الدولية، فضلاً عما تضمنه تقرير بسيوني بخصوصها وإعادة العديد من المحاكمات التي تمت خلالها.

وتماما كما أسست محاكم السلامة الوطنية (المحاكم العسكرية) بشكل "استثنائي" ولكن مؤقت (فترة الطوارئ مارس/آذار 2011 حتى يونيو/حزيران 2011)، تنعقد هذه المحكمة الجديدة فترة الإجازة القضائية، بشكل "استثنائي"، وتختص بالنظر في قضايا تمس أمن الدولة، رغم أن قانون تنظيم القضاء لايسمح بانعقاد المحاكم في الإجازة القضائية (العطلة الصيفة) إلا للنظر في الدعاوى المستعجلة فقط وهو ما لا ينطبق على المحاكمات السياسية التي تعقدها المحكمة.

ولكي تنفي السلطة عن المحكمة الجنائية الرابعة طابعها السياسي الذي شُكّلت من أجله، فإنه تم تطعيمها بعدد من القضايا الجنائية (غير السياسية) لا يتجاوز حسب محامين الـ5٪ من مجموع القضايا.

وضع على رأس المحكمة الجنائية الرابعة القاضي علي الظهراني نجل مجلس النواب البحريني خليفة الظهراني (المقرب جدا من النظام الحاكم)، وهو أحد قضاة محكمة السلامة الوطنية، تميزت أحكامه بطابع انتقامي، وكان شهود عيان قد أكدوا أنه كان يبتسم في وجوه المعتقلين بعد النطق بالأحكام عليهم.

القاضي الآخر إلى جانب الظهراني، هو الشيخ حمد آل خليفة، أحد القضاة المعروفين بالتشدد في القضايا الأمنية، يلجأ دائما لأشد العقوبات دون الأخذ بالمعطيات الموضوعية، مستغلا السلطة التقديرية المعطاة للقاضي.

القاضي الثالث هو جاسم العجلان، وهو قاض حديث التعيين لم يتجاوز تعيينه مدة عاميين، وقد كان في المحكمة الصغرى ونقل للمحكمة الكبرى الرابعة الجنائية في فترة قياسية بقرار من المجلس الأعلى للقضاء في تجاوز واضح لمتطلبات النقل وعدم استيفائه متطلبات القضاء في المحكمة الكبرى.

منذ القضية الأولى لهذه المحكمة بدا واضحاً الدور الذي كان مقرراً لها أن تضطلع به. بدأت جلستها الأولى في 10 يوليو 2013 برئاسة القاضي علي الظهراني، بالقضية التي عرفت بـ"شوزن كرزكان"، اتهم فيها 3 شباب بحرينيين بالشروع بقتل رجال الشرطة وإصابة عدد منهم وحيازة أسلحة وذخائر محلية الصنع في مزرعة بكرزكان، بالإضافة إلى تهمة أخرى وهي استعمال القوة والعنف مع الموظفين العامين "رجال الامن" والاشتراك في تجمهر مؤلف أكثر من خمسة أشخاص الغرض منه الاخلال بالامن العام.

صحيفة الوطن المملوكة للديوان الملكي نشرت خبر بدء جلسات المحاكمة متعجلة تثبيت تهمة الإرهاب على المتهمين الذين للتو بدأت محاكمتهم، جاء عنوان الخبر المنشور: "بدء محاكمة 3 إرهابيين استخدموا "شوازن" محلية الصنع لقتل الشرطة".

شهدت جلسات المحكمة تناقضات مخلة وفاقعة في رواية شهود الإثبات مع رواية الداخلية، فالشاهد الرئيسي في القضية نفى ما قالته وزارة الداخلية من تعرض رجال أمن لإصابات في منطقة كرزكان جراء إطلاق من سلاح شوزن ضدهم. صرّح المحامي عبدالله زين الدين حينها: "أقر أهم شاهد في القضية، والذي من المفترض أن يكون مصابا حسب رواية وزارة الداخلية أمام القاضي بأنه لم يتعرض لأي إصابة، كما لم يتعرض أي رجل أمن ممن كانوا معه لأي نوع من الإصابات، ومن جهة أخرى أكد بأن متظاهرين مجهولين كان يحملون المولوتوف والحجارة"، مؤكداً أنه بهذه الشهادة تتأكد أن حادثة إطلاق "الشوزن" في كرزكان هي مجرد خرافة.

وأضاف زين الدين: "الأكثر من ذلك فإن بقية شهود الإثبات الذين قاموا بإلقاء القبض على الأبرياء الثلاثة والذين من المفترض كما هو ثابت بالأوراق بأنهم هم تحفظوا على الأسلحة المزعومة تضاربت أقوالهم، وبدا التخبط وواضحاً وجلياً في شهادتهم فهم لم يتفقوا حتى على عدد الأسلحة المزعومة ضبطها".

وأشار زين الدين إلى أن شهود الإثبات لم يستطيعوا تحديد مكان إلقاء القبض على المتهمين الثلاثة لا في أوراق الدعوة، ولا حتى في شهادة شهود الإثبات.

وقال زين الدين إن "ما يؤكد خرافية وكيدية قضية "شوزن كرزكان" هو عدم وجود أية بصمات على الأسلحة المزعومة مع العلم من أن المتهمين لم يكونوا مرتدين لأي قفاز، كما يؤكد على خرافية حادثة إطلاق الشوزن هو أن الطلقات التي تم التحفظ عليها هي مستخدمة من قبل وزارة الداخلية".

وتابع: "تجدر الإشارة أنه بعد فحص ملابس المتهمين تبين عدم وجود أي آثار للبارود أو ما يدلل على حيازتهم لأسلحة"، مؤكداً أن كل تلك الأدلة، بالإضافة إلى الأدلة الأخرى تجعل من القاضي أمام نتيجة واحدة، وهي براءة المتهمين.

ودفعت المحامية زينب عبدالعزيز ببطلان اعترافات المتهمين المنسوبة لهم، وذلك لتعرضهم لإكراه مادي، فضلاً عن تناقض أقوال شهود الإثبات، والشيوع في الاتهام على أساس احتمالية غياب المتهمين عن أعين رجال الأمن، بالإضافة إلى أن التقارير الفنية لم تقدم ما يفيد صلة الواقعة بالمتهمين، الأمر الذي يقضي ببراءة المتهمين.

وقالت: "انتزعت اعترافات المتهمين تحت الإكراه، وكان القبض خلافاً للقانون، وهو من شأنه أن يبطل كافة الاتهامات، ولو افترضنا أن هناك بصمات على السلاح، نلاحظ خلو ملف الدعوى من أية أدلة إثبات ضد المتهمين، وإن كان ذلك لا يرقى إلى يقين المحكمة، لكنه يثير الشك". وقد أنكر المتهمون ما نُسب إليهم في جلسة ماضية وبيّنوا أنهم هم من تعرضوا للضرب من قبل مجموعة كبيرة من قوات مكافحة الشغب وليس هم من ضرب رجال الأمن الذين كان عددهم كبيراً مقابل أنهم 3 أشخاص فقط.

ورغم جميع هذه التناقضات بين أقوال الشهود ورواية النيابة العامة، ورغم تأكيد المتهمين على تعرضهم للتعذيب وانتزاع اعترافاتهم تحت التعذيب، إلا أن المحكمة برئاسة القاضي الظهراني أصدرت في 15 سبتمبر حكمها على المتهمين بالسجن عشر سنوات. أي أن كامل جلسات المحاكمة والنطق بالحكم استغرقت مدة شهرين فقط، في حين تستغرق مثل هذه القضايا في العادة بين 6 شهور إلى عام. وفي 27 يناير أيدت محكمة الاستئناف الحكم الصادر بحق المتهمين الثلاثة.

كيف سارت جلسات قضية "خلية 14 فبراير"؟ ولماذا انسحب المتهمون من جلسات المحاكمة؟ وما التطورات التي أعقبت ذلك؟ في الحلقة القادمة

 

 


مواضيع ذات صلة
التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus