الملك البحريني في أكثر أوقاته تعنتا.. ووضوحا
عباس بوصفوان - 2013-12-17 - 9:57 م
عباس بوصفوان*
تصوروا لو أن الملك حمد دعا في خطابه الأخير إلى الحوار، حينها كنتم رأيتم الغناء المعارض والموالي لهذه الدعوات الفضفاضة التي لا تزيد الواقع إلا بؤسا. لذا فإن من أهم محاسن الخطاب الملكي الحربي أنه قال صراحة وجهة نظره البائسة فيما يفترض أنهم شعبه.. لكن ذلك ليس مؤكدا أن يغير من نهج المعارضة التي تدعي أنها لا تتخذ خطواتها بناء على ردات الفعل.
في الحقيقة، لم يكن متوقعا صدور خطاب تصالحي من الملك حمد في 16 ديسمبر، لكن ربما لم يكن متوقعا أن يكون خطابه بهذا القدر من التشدد والصفاقة والتفاخر بسفك الدم.
يبدو الملك البحريني في أكثر أوقاته تشددا، فبدل أن يزع الأمل ويدعو للتوافق الوطني، ولو مداورة ونفاقا كجزء من علاقات عامة، بعد ثلاث سنوات ـ بل عقد ونصف ـ من النزيف الوطني، فإنه تحدث إلى المواطنين صبيحة ما يفترض أنه عيد وطني، وفي يده سيف، والشرر يتطاير من عينيه، متوعدا القطاعات الشعبية المعارضة بإعادة تطبيق استراتيجيات غزو البحرين قبل نحو 230 عاما، بما في ذلك، بل أولها، سياسات سفك الدم والتهجير الجماعي للسكان، معتقدا خطأ أنه بذلك قادر على استعادة شرعيته التي فقدها عبر سلسة من إجراءاته العنيفة التي اتخذها منذ وطأت قدماه القصر الملكي في 1999.
بعد كل الخطابات التصادمية السابقة1، هل في جعبة الملك تشدد أكبر يمكن أن يذكره في خطابه الأخير (16 ديسمبر 2014). الجواب: نعم، فهذه المرة الأولى التي يربط فيها الخطاب الرسمي 16 ديسمبر "بذكرى فتح البحرين عام 1783م"، وهو العام الذي غزت قوات آل خليفة البحرين.
تعتبر السلطة البحرينية 16 ديسمبر عيدا وطنيا، وعيد جلوس الملك حمد الذي تسلم السلطة خلفا لوالده عيسى بن سلمان في مارس 1999. واختارت السلطات 16 ديسمبر بديلا عن يوم 14 أغسطس، الذي تتجاهله السلطات، رغم كونه ذكرى توقيع اتفاق انسحاب القوات البريطانية من المنامة، وإعلان استقلال البحرين.
الخطاب الرسمي يستخدم مصطلح "الفتح" لتسمية العملية العسكرية الناجحة والعنيفة التي قادها، في 1783، أحمد بن محمد آل خليفة (توفي عام 1794م) للاستيلاء على جزر البحرين، انطلاقا من مقر حكمه في الزبارة، الواقعة على الشاطئ الشمالي الغربي لشبه جزيرة قطر.
ويجتهد آل خليفة لتكريس مصطلح "الفتح" وتعزيز حضوره في الإطار العام، فأطلقوا لقب "الفاتح" على أول حاكم خليفي دخل الجزيرة عُنوة، وسمّوا شوارع ومساجد ومراكز عامة بهذا الاسم.
وتعتقد العائلة الحاكمة إن مصطلح "الفتح" يمنحهم الحق في امتلاك الأرض وما عليها، ضمن فهم متعسف ومغلوط يحاول تشبيه قيام آل خليفة بغزو البحرين بالغزوات/ الفتوحات الإسلامية إبان العهد الراشدي، فيما الموثوق من التاريخ المسجل والمجمع عليه إن جزر البحرين دخلت الإسلام سلما لا حربا، منذ عهد النبي محمد (ص)، كما لا يُعرف أنها (البحرين) كانت دولة كافرة في القرن الثامن عشر حين احتلها آل خليفة، إلا إذا كان المقصود أن المسلمين الشيعة، الذي يشكلون غالبية السكان، يعتبرون كفارا، وهو ما لا يقره الكافة، الذين يعتبرون الشيعة مسلمين، تحرم دماؤهم وأعراضهم وممتلكاتهم! (انظر: بنية الاستبداد في البحرين: دراسة في توازنات النفوذ في العائلة الحاكمة)
الاحتفاء بـ "الفتح" في 16 ديسمبر له دلالات خطيرة، منها:
أولا، أنها تؤكد استمرار نظرة ملك البحرين إلى المواطنين الشيعة بأنهم الخطر الاستراتيجي على النظام. هذا التصور المرعب قد يوضح للرأي العام مجمل الخطوات غير التقليدية التي اتخذها الملك حمد ضد الأغلبية الشعبية، والتي يبرزها على نحو مخيف تقرير البندر الشهير الذي كتبه مستشار الحكومة السابق صلاح البندر. إذا، التحدي ليس قطر، ليس السعودية، ولا حتى إيران.. ولا التنمية ولا الفساد، ولا المنافسة الاقتصادية الاقليمية، ولا ضمور النفط.. ولا الخلل السكاني.. الخطر هم الشيعة الذين يتوجب ليس فقط الاستعداد لمواجهتهم، وإنما القيام بالعمليات الاستباقية لتقليم أظافرهم وتقليص نفوذهم.. وبالفعل فقط مضى الملك في ذلك خطوات لا يمكن تصديق أنها تمت وسط تطبيع شيعي مع النظام القائم بين 2001-2010، وهذا ما يبرر في الواقع حجم التظاهرات التي عمت البحرين في 2011، والتي عكست حجم الظلامات التي تعيشها القطاعات الشعبية العريضة.
ثانيا، إن الحديث عن تسوية ممكنة مع النظام مازالت بعيدة. وهم الانتصار لدى السلطة مازال يضيع فرص التوافق. وفي الواقع، فإن الملك بهذه الخطوة يضع خطوطا حمراء إضافية أمام المعارضة: الخط الأحمر الأوضح هو أن تكف المعارضة عن الحديث وكأنها ند للسلطة، وأنها تريد أن تتحكم باختيار رئيس الوزراء، وتساهم بفاعلية في إدارة البلد. فالبحرين، وفق نظرة الملك، المعلنة الآن، وليست المفترضة، خاضعة للأسرة الخليفية، التي نالت الحكم عبر "الفتح" والقتال، فلم يتم استقبالها بالورود حين دخلت البحرين عنوة، ومن أراد الحكم فسيتم مواجهته بالسيف. فإما أن يرفع السيف مقابل السيف، أو يخضع للـ "الفاتحين".
ثالثا، الشيء الإيجابي، إن صح القول، في خطاب الملك حمد هو ذاك المتعلق بوضوحه في مشاعره السلبية للقطاعات الشعبية الواسعة والمعارضة الوطنية. ذلك أن الملك كان بإمكانه إحداث بلبلة وشرخا معارضا لو أنه تفوه فقط بكلمة الحوار والإصلاح، ولو مجرد لقلقة لسان، لكنه بدا صلفا لدرجة أنه لم يدعُ المعارضة إلى العودة إلى متاهة الحوار، بكل في ما ذلك من احتقار للحالة الوطنية المتأزمة، فلم يعد إلا بالاستمرار في ذات الطريق الخاطئ. بيد أن ذلك ليس من المؤكد أن يكون له معنى كبير في سياسات المعارضة ونهجها الذي بدا مستسلما بأنه لا يمكن تغيير الواقع.
رابعا، التجارب تشير إلى أن المعارضين لم يرفعوا راية الاستسلام طوال عشرات السنين من تاريخ النضال الموثق، لكن هذا التاريخ يسجل أيضا أن المعارضين يتخذون الإجراءات التي لا تجعلهم في صدام مباشر ودائم مع خطوط النظام الحمراء، ولذلك يتم التطبيع عادة من قبل المعارضة مع المسارات التي تفرضها السلطة، وإن ظلت مرفوضة نظريا. ولعل ذلك سيناريو قابل للتكرار، رغم إن المعارضين يرددون أن ثورة 14 فبراير ستكون الأخيرة.
أخيرا، لا بأس من الإشارة إلى أنه قبل خطاب الملك، وفي حديث ساخن مع عدد من الإخوة، لم يصدق بعضهم كلامي من أن السلطة البحرين في أكثر أوقاتها تشددا. في ذلك اليوم (السبت 14 ديسمبر 2013) نشرت الصحف المحلية تصريحات للقيادي السلفي الشيخ عادل المعاودة، رأى فيه أن «الحوار (بين السلطة والمعارضة) يجب أن يستمر وأن يطرح كل شيء فيه، وأي طرف من الاطراف يستخدم أسلوب أن لدينا رأيا وليس لدينا غيره كأنما يقول ليس لدينا ما نتحاور عليه».
وبافتراض أن المعاودة من بين الشخصيات التي تعطي مؤشرا على توجه السلطة، اعتبر البعض هذا التصريح إيجابيا، مقارنة بتصريحات سابقة يصف فيها المعارضة بأنها "عصابة تدمر البلد، وتختطف الشعب". (28 يوليو 2013). كان رأيي عكس ذلك، وإني أشم في خطاب المعاودة لغة وهم الانتصار السلطوية، إنه يدعو المعارضة للحوار وفق القواعد التي تضعها العائلة الحاكمة، بعد أن "تم الانتهاء من تكسير عظامها"، كما يقدر الخطاب الرسمي، وكما طالبت مختلف جبهات تكتل الفاتح الموالي منذ مارس 2011.
ومع ذلك، فإن خطاب الملك جاء أكثر تشددا من أي توقعات بنيتها. لا يقابل الملك الرسائل الإيجابية المعارضة المرسلة إليه والتي لا تتوقف طوال 1000 يوم من عمر ما يبدو الآن أنه حراك شعبي هادر وقد يطول أكثر منه ثورة تطيح بأسس النظام بالضربة القاضية، بيد أن الملك يرد على المعارضين بمزيد من الجفاء، ويطلب من المعارضة الخضوع الكامل لسلطة الفاتحين. إنها معادلة ولا شك تضع البحرين أمام حالة من توتر غير مضمون العواقب.
*كاتب من البحرين ـ لندن.