إعادة هيكلة النخبة الشيعية الموالية
عباس بوصفوان - 2013-10-18 - 7:01 ص
عباس بوصفوان*
صحيح أن تعيين الشيخ عبدالمحسن العصفور على رأس الأوقاف الجعفرية يستهدف مواصلة احتواء الأوقاف، ضمن نهج أوسع لإيقاع أكبر ضرر ممكن بالجماعة الشيعية في البحرين. بيد إن ذلك كان متحققا طوال الأربعين سنة الماضية، ما لا يستدعي تعيين شخصية مثيرة للجدل مثل العصفور، وإثارة كل هذه الجلبة، لذا، يجدر البحث عن أسباب أخرى وراء التعيين.
في مارس 2011، وبعيد التدخل العسكري السعودي في البحرين، والهجوم الضاري على دوار اللؤلؤة، تفاجأ القصر الملكي باستقالات جماعية من قبل النخبة الشيعية، الدينية خصوصا، المناصرة تقليديا للنظام.
فقد أعلن الشيخ أحمد العصفور (يناهز عمره 100 عام) استقالته من منصبه مستشارا لمجلس القضاء الأعلى. واختار الشيخ الوقور أن يذيل استقالته غير المسبوقة في علنيتها ولغتها الواضحة في إدانة القمع الرسمي للمعتصمين في دوار اللؤلؤة، يذيلها بكونه عميد عائلة آل عصفور داخل البحرين وخارجها.
الملفت أن العصفور دعا في رسالته "رجالات آل عصفور الكرام ممن هم في المواقع الرسمية العليا بالتنحي، بسبب ما آلت إليه أوضاع البلاد"، مع ما يفرضه ذلك من التزامات على العائلة التي يتبوأ العديد من أفرادها مناصب مرموقة، ولها بعض الامتدادات في المنطقة الشرقية في العربية السعودية ودول الخليج الأخرى.
العصفور أدان في خطاب الاستقالة "انتهاك الحرمات وتزايد وتيرة العنف ضد أبناء شعبنا الأعزل، وقتل النفس المحرمة، المسبوقة بالتحريض والشحن الطائفي من قبل وسائل الإعلام الرسمية دون رادع، أدت إلى تصاعد الامور حتى وصلت إلى نشر الفزع والهلع في أوساط القرى الآمنة"، ولا تختلف لغة الإدانة تلك عن العبارات التي تستخدمها بيانات المعارضة، مع إن العصفور مصنف تقليديا، منذ التسعينات، على الأقل على أنه موال للسلطة التي انتظرت منه ترحيبا بالعنف، تحت يافطة "ضبط الأمن وتطبيق القانون"، كما فعلت جماعات الفاتح.
بيد أن ما بدا أشد على النظام، دعوة العصفور إلى "الاستجابة للمطالب المشروعة للشعب البحريني"، و"سرعة التحرك لإنقاذ البلاد، وعودة الاستقرار والسلم الأهلي"، أي أن العصفور لم يكتف بالإدانة، وإنما انحاز لصالح القطاعات الشعبية المطالبة بالإصلاح.
إلى جانب العصفور، وفي ذات الفترة (منتصف مارس 2011)، أعلن مستشار الملك لشئون السلطة التشريعية ونائب رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الشيخ محمد علي بن الشيخ منصور الستري "توقفه عن العمل في جميع مهماته الرسمية احتجاجا على أسلوب التعاطي الأمني في التعامل مع الأزمة السياسية والأمنية والاعتداء الغاشم على المواطنين وسفك دمائهم".
وتقليديا، كان الستري يبرز كشخصية أكثر من العصفور مناصرة للنظام، وتعبيرا عن رفض خيارات المعارضة. الستري إلى جانب الشيخ طاهر بن سليمان المدني يعدان قطبي التيار الديني الموالي للنظام، المعروف بالتيار المدني، نسبة إلى المرحوم الشيخ سليمان المدني، وواجهته السياسية جمعية الرابطة الضعيفة التأثير في المشهد السياسي.
ويتشكل هذا التيار (الرابطة/ المدني) من تجمع شخصيات ذات توجهات دينية، محسوبة تقليديا على الحكومة، هم في الأساس من مريدي المرحومين الشيخ سليمان المدني والشيخ منصور الستري. وكلاهما (الستري الأب والمدني الأب)، إلى جانب الشيخ أحمد العصفور، كانوا يحظون بالتبجيل الشعبي، إلا أن شعبيتهما تدهورت في التسعينيات من القرن الماضي، حين انحازوا إلى السلطة ضد تحركات شعبية، بقيادة المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري، كانت تطالب بعودة دستور 1973.
وصحيح أن تيار العصفور والمدني لم ينخرطا بالكامل في حدث 14 فبراير (2011) غير المسبوق، بيد أنهما أبديا تعاطفا واضحا لمطالبه المشروعة، لكن إدانتهم كانت جلية ولا تحتمل أي لبس للانتهاكات المروعة التي دشنتها السلطة في منتصف فبراير 2011، واتخذت منحى دمويا وشاملا منتصف مارس 2011، بعيد ساعات من التدخل العسكري السعودي في البحرين.
استقالة العصفور، وتعليق الستري لعمله، كانت نداء للمحسوبين عليهما، كي يستقيلوا من أعمالهم. وهذا ما تم بالفعل، إذ قدم نحو سبعة من أعضاء مجلس الشورى استقالتهم، من بينهم "ندى حفاظ، محمد حسن باقر رضي، سيد ضياء الموسوي، محمد هادي الحلواجي، سيد حبيب مكي هاشم، علي عبدالرضا العصفور، ناصر المبارك"، كما استقال 12 قاضياً في المحاكم الشرعية وعضوين في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، أغلبهم محسوبين على تياري المدني والعصفور.
وتتقاسم جماعتا العصفور والمدني الحصة الشيعية في العديد من المناصب في القضاء والأوقاف، لكن الأوقاف تميل الكفة فيه لصالح تيار المدني، فيما تبدو حصة العصفور أثقل في القضاء، فيما تمضي حصة مهمة من المناصب والتمثيل الشيعي في السلطة إلى العوائل التقليدية المناصرة للنظام، إضافة إلى شخصيات مغمورة. بيد إن ذلك لا يجدر أن يغيّب حقيقة فاقعة أن القضاء والأوقاف خاضعان بشكل طلق للتوجه الرسمي، كما مختلف المؤسسات الحكومية والتجارية والإعلامية في البحرين.
إلى ذلك، فقد أعلن المعارض السابق د. مجيد العلوي تعليقه حضور جلسات مجلس الوزراء باعتباره وزيرا للإسكان، احتجاجا على العنف الرسمي، فيما اختار د. نزر البحارنة الاستقالة من عمله وزيرا للصحة، بعيد ساعات من احتلال الجيش لمستشفى السلمانية الطبي، وعدم قدرة الأخير على حماية الطاقم الطبي من التعديات الفاحشة.
والعلوي والبحارنة والعصفور والستري، نماذج للنخب التي كانت السلطة تستهدف استقطابهم، إلى جانب آخرين، مثل الوزير السابق منصور بن رجب الذي يحتاج بزوعه وانزواؤه مقالا خاصا.
ويصنف العلوي والبحارنة كشخصيتين معتدلتين، وكان الأول قيادي في حركة أحرار البحرين التي كان لها يد طولى في إدارة انتفاضة التسعينات، قبل أن ينشق عنها وينضم للحكومة قبيل نحو عامين من التصويت على ميثاق العمل الوطني، فيما كان البحارنة عضوا في إدارة الوفاق قبل أن يستجيب إلى دعوة ملكية لتوزيره في ديسمبر 2006، لكن الوفاق اعتبرت البحارنة لا يمثلها في السلطة التنفيذية، لأنها لم تستشر في ذلك، كما اعتبرت حركة الأحرار العلوي منشقا عنها.
وينحدر العلوي من عائلة متوسطة من قرية القدم (شمال المنامة)، قبل أن يبزغ كمعارض في لندن، التي قضى فيها نحو عشرين عاما، فيما ينحدر البحارنة من عائلة معروفة، تشتغل بالتجارة، والده رئيس سابق للأوقاف الجعفرية، وعمه محمد حسين البحارنة وزير الشئون القانونية السابق لمدة تزيد على 25 عاما (1975- 1995)، وقد اعتاد حسين البحارنة توجيه نقد حاد للسلطة في العشرية الأخيرة.
عشية 14 فبراير 2011، كان العلوي وزيرا للعمل، والبحارنة وزير دولة للشئون الخارجية، لكن الملك حمد ذا النهج المتشدد، أعاد تشكيل الحكومة بعد نحو عشرة أيام من اندلاع ربيع البحرين، وعيّن العلوي وزيرا للإسكان، والبحارنة وزيرا للصحة، وكلتاهما وزارتان مضتا في طريق فاقع من التمييز وسوء الخدمات.
لكن خطوة إعادة تشكيل الحكومة، التي يصعب القول إنها جديدة، لم تنزع فتيل الاحتجاجات المتنامية حينها، رغم الإطاحة بالشخصية الأبرز في تنفيذ تقرير البندر أحمد عطية الله من منصبه وزيرا لشئون مجلس الوزراء، والذي أعيد تعيينه بعد أسابيع قليلة من ذلك وزيرا لشئون المتابعة في الديوان الملكي، كتأكيد إضافي على أن تقرير البندر خطة ملكية مستمرة، وتحظى بالرعاية.
وضمن الاستقالات الجماعية في مارس 2011، سجل المحامي المرموق حسن رضي استقالته من مجلس إدارة غرفة البحرين للمنازعات. وينظر لرضي على أنه الأب الروحي للمحامين المعارضين في البحرين، وكان قاد لوبي الدستوريين المناهض لدستور 2002.
وقد سبقت استقالات الموالين، استقالة مدوية لكتلة الوفاق النيابية (18 نائبا) في فبراير 2011، والتي زادت من الدفع بالحراك الشعبي المتنامي حينها.
لقد بدت الاستقالات الشيعية تلك تخليا شيعيا شبه كامل عن الملك حمد، مع استقالة جميع النواب وبعض الوزراء والقضاة والشوريين الشيعة، رغم أن عددا مهما من هذه الاستقالات لم تدم طويلا، بعودة طاقم الشوريين والقضاة إلى حضن السلطة، فيما لا يعرف كيف تقيّم الوفاق تجربة استقالة نوابها، في ظل أصوات مكتومة تتحدث أحيانا عن أن الاستقالات أفقدت الانتفاضة صوتا نيابيا، ربما كان ساعدها في توصيل صوتها، وإن كنت أظن أن الاستقالات أنقذت الجمعية الرئيسية المعارضة من ضغوط نيابية، كالتي تعرض لها البلديين الوفاقيين المنتخبين الذين تمت إقالة عدد منهم ضمن الخطوات الانتقامية المحمومة.
الملك لم ولن ينسى الألم الذي سببته هذه الاستقالات، من الموالين خصوصا. وسيظل يعمل على معاقبة الشخصيات التي أبدت تبرمها من النهج الأمني، عبر إقصائهم من مناصبهم.
ولعلي أدعو جميع الشيعة الموالين للسلطة، والذين استقالوا من مناصبهم أو عبروا علنا عن امتعاضهم من العنف الممارس ضد المعارضين، أن يهيئوا أنفسهم لخطوة خليفية انتقامية، إذا لم ينلهم نصيب من ذلك بعد.
كما ألفت نظر الطامحين في نهج حكومي عقلاني، مثل عضو مجلس الشورى عبدالرضا العصفور، الذي أبدى أكثر من غيره أملا في المصالحة الوطنية، ألفت نظرهم بتوخي الحذر، فالملك حمد لا يرضى شريكا!
وبالفعل، في 25 مارس 2011، أعلن الملك إقالة مجيد العلوي، وقبول استقالة نزار البحارنة من منصبيهما، كونهما أبديا بشكل واضح رفضا للعنف ضد العزل، فيما مضى النهج الأمني مغرقا البلاد في حالة من الرعب والمكارثية، تسببت في قتل العشرات، وفصل أكثر من أربعة آلآف مواطن شيعي من أعمالهم، واعتقال الآلاف.
بعد أيام قليلة من انهاء حالة الطوارئ في البلاد (15 مارس ـ 30 مايو 2011)، تصاعدت الخطوات الملكية الانتقامية ضد التيار الديني الشيعي الموالي للسلطة. ففي 12 يونيو 2011، استبدل الملك مجلس إدارة الأوقاف الجعفرية بموالين آخرين، من خارج صفوف التيار المدني الذي أنيط به إدارة الأوقاف في العشرية الأخيرة.
وجاءت الخطوة الملكية الانتقامية بسبب الامتعاض الواضح الذي أبداه مجلس إدارة الأوقاف، برئاسة النائب الموالي السابق أحمد حسين (محسوب على تيار الرابطة/ المدني)، بسبب تعدي الجيش وأجهزة الأمن والمليشليات التابعة لها ووزارة البلديات على دور العبادة، وقيامهم بهدم نحو 35 مسجدا، وهدم عشرات المرافق التابعة للحسينيات، وكأن مطلوب من الأوقاف أن ترحب بتدنيس المقدسات الإسلامية الشيعية.
ويأتي تعين عبدالمحسن العصفور في منصب رئاسة الأوقاف في 24 أغسطس الماضي، في سياق استمرار البحث عن وجوه أكثر تعبيرا عن التوجه الرسمي. وكان العصفور قد أقيل من منصبه قاضيا في المحاكم الجعفرية في 2004، وهي خطورة لقيت الترحيب حينها، لكني مازلت أظن أنه يتوجب على النخبة الشيعية اعتبار الأوقاف والقضاء الشيعيين وقانون الأسرة الجعفري خصوصية مذهبية لا يجوز للدولة التدخل فيها.
لم يخرج النظام من تجربة 14 فبراير بأهمية المصالحة الوطنية والإصلاح الفعلي، والتوقف عن التمييز الفاقع ضد الشيعة، وإنما انتهى النظام إلى خلاصة مفادها التالي (فيما يخص موضوع المقال):
أولا، إن الجسم الشيعي يكاد يكون موحدا في الرغبة من التخلص أو الحد من قبضة الحكم الخليفي، ثم أن الموالين الشيعة، خصوصا الدينيين منهم، يبدو ولاءهم منقوصا وليس مطلقا! رغم أن الجسم الموالي الشيعي تراجع سريعا عن الاستقالات، حتى والقتل مستمر في ذروة تطبيق قانون الطوارئ، ولعل بعضه من فرط خوفه يرغب في إعلان التوبة عن خطئه في حق العائلة الحاكمة!
ثانيا، الخلاصة الملكية الأخرى، أن بعض أفراد العوائل الشيعية المعروفة: الجشي، الصالح، العريض، وغيرها، بدوا أكثر التزاما، من الدينيين الشيعة، مهما فجر النظام في خصومته ضد معارضيه، رغم أنه يبدو من السطحية الحديث عن عائلة متنوعة في كفة واحدة، لذا أفضل الحديث هنا عن أفراد لا عوائل.
ثالثا، الخلاصة الملكية الأهم، الحاجة إلى المضي في سرعة تنفيذ ما تبقى من تقرير البندر، واتخاذ ما يلزم لتهديم كل مراكز النفوذ الشيعية على كافة الصعد.. لتشمل هذه المرة إعادة تشكيل النخبة الشيعية بما يجعلها نخبة خليفية خالصة، تحت شعار: إما معنا أو ضدنا.
لذا، فإن تعيين العصفور على رأس الأوقاف لا يستهدف النخبة الدينية وغير الدينية الشيعية المعارضة للنظام، فهذه النخبة مستهدفة بطرق كثيرة أخرى مكشوفة ومعلنة، وجزء من ذلك دون شك استبعادها عن الجهاز الرسمي لأنها لا ترضى أن تكون تابعا، لكن تعيين العصفور يستهدف القول للموالين الشيعة: سننتقم منكم بلا تردد.
ويجدر لفت الأنظار إلى أنه لا يمكن للنظام، وحتى هو غارق في التمييز، أن لا يحتاج إلى موالين شيعة. وفي الغالب فإنه رغم الصعوبات التي يواجهها قادر على إنتاجهم. بيد أن هذا الإنتاج غدا في الحضيض السياسي، فإذا كان الشيخ عبدالمحسن العصفور والشيخ الدكتور عبدالله المقابي هما واجهتان دينيتان للنظام، حينها يمكن الإدراك أي صعوبات تواجه الملك حمد في بناء نخبة شيعية موالية له تحظى بالمصداقية. وبالتأكيد لا يمكن للعصفور والمقابي أن يكونا بديلا للشيخ أحمد العصفور الذي تتذكره الأجيال خطيبا حسينيّا مبرزا، والشيخ محمد الستري الذي يعتاش على مجد أبيه، وكان، ولا أظنه كذلك الآن، مرسال النظام للحوزة الدينية في النجف.
وفي ذلك، يواجه الملك حمد تحديا نفسيا، فمن ناحية يعتبر الشيعة خطرا استيراتيجيا على النظام، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يستقر نظام دون شرعية يمنحها هذا "الخطر" للنظام!
إن التمييز سوف يستمر، وسيترافق معه بناء نخبة موالية، على الأرجح ستظل هشة، ومجددا يشجعني ذلك لتكرار تشجيع طرح "القضية الشيعية في البحرين"، دون أن التخلي عن القضية الرئيسية: التحدي الديمقراطي، وذينك الأمرين تحدديا ماثلين أمام المعارضة.
أما التحدي الآخر، فهي عدم خسارة الموالين الشيعة التقليديين، من أمثال تياري العصفور والمدني، وضرورة التواصل معهم، وتحميلهم مسئوليتهم أمام جماهيرهم المحدودة والمنفضة من حولهم، وسبق أن أشرت إلى ذلك في مقالي: الدماء والمقدسات والأعراض تنادي جميعا المدني والعصفور، المنشور في هنا منذ يونيو 2011، أما مسألة كسب مزيد من السنة، فيبدو أن المعارضة في وضع اليأس من ذلك، حاليا على الأقل، ولذلك وقفة أخرى.
*كاتب وصحافي من البحرين مقيم في لندن.