نهاية "الصحافة" وموت "الصحافيين"

عادل مرزوق - 2013-08-21 - 10:43 م

عادل مرزوق*

هذه صناعة الإعلام والصحافة، صناعة فريدة تتقدم فيها متغيرات "السوق" على ما يقدمه درسها الجامعي، وعلى ما تتوقعه/ تنتجه معامل الخبرات المتراكمة في المؤسسات الإعلامية العريقة أيضاً.

لم يعد تسابق وتزاحم أدوات هذه (الصنعة) وتأثيراتها في الأحداث مقلقاً لأبناء "الكار" وحسب، بل يشمل اليوم أولئك المنفعلين بالأحداث، من سياسيين واجتماعيين، وبما يشمل الناس العاديين، أولئك الذين وجدوا أنفسهم - دون مقدمات - صحافيون وإعلاميون يشاركون بفعالية في صناعة الخبر، وما وراء الخبر. وهكذا، تتكدس خسارات الصحافيين الكلاسيكيين كل يوم، وفي كل مكان.

وبقدر ما يتقدم حقل الإعلام والصحافة، ويتضخم، ويتعقد، ويمتد، وتتشابك خيوطه وارتباطاته، وبقدر ما يزداد تورطه بالحقلين "السياسي" و"الاقتصادي" تصبح إدارته أصعب، ويصبح فهمه وتوجيهه، أكثر تعقيداً. ولأن "الإعلام" كصناعة بات يرتبط ويتقاطع مع "التكنولوجيا" رافدته وحاضنته الرئيسة، بات من الضروري أن نلاحظ/ ندرس/ نفهم هذه الحالة المعقدة من تسارع المراحل والتحولات الجوهرية، بل أن نتنبه إلى تورطنا كصحافيين في تلك القفزات التي يبدو أنها لا تمهلنا الوقت الكافي لفهم طبيعة ما يحدث، ومعناه، فضلاً عن نتائجه.

الجيش الجديد من الصحافيين

أفلت الخبر - الذي هو "بضاعة" الصحافي و"رأسمال" الصحافة - من "مانشيتات" الصحف الورقية وعناوين النشرات التلفزيونية، ليصبح مشاعاً. وأفقدت غزارة وآنية ما تقدمه وسائل الاتصال الحديثة ووسائط الإعلام الاجتماعي من معلومات وأخبار ومتابعات أربعة من الأسئلة الخمسة (مَن؟، أين؟، متى؟، كيف؟) بريقها، وأهميتها. ولم تعد (مانشيتات) الصحف الورقية والنشرات التلفزيونية تقدم جديداً، إلا ما ندر.

وأمام هذا الجيش الكبير من (المواطنين الصحافيين) الذي هو بصورة أو أخرى (البديل) المجتمعي (المفترض) لإخفاق الصحافة في أداء أدوارها ومهامها. لم يبق للصحافيين من فضاء للاشتغال سوى الاهتمام بما يمكن اعتباره الاشتغال في (المعنى)، وذلك عبر توضيح سياقات الأخبار والأحداث المتتالية، حيث بقى سؤال "لماذا؟"، السؤال الذي لا تزال الصحافة الأقدر على الإجابة عليه. غير بعيد عن سياقات تموضعها، وتموضع القراء أنفسهم. وهو ما ينطبق بوضوح على المقدمات السياسية للنشرات الإخبارية في القنوات التلفزية اللبنانية، والتي هي بكل وضوح قراءات تحليلية، وشرح لسياقات الأخبار التي سيتم بثها في النشرة[1].

وفيما تبرز الصحافة الاستقصائية كعنصر قوة حقيقي بيد الصحافيين، يعيبها ارتفاع كلفتها التشغيلية. ولأن المؤسسات الإعلامية الكبرى وحدها من تستطيع تمويل مثل هذه التحقيقات الاستقصائية، نسأل ما إذا كان ثمة دافع لتتبنى المؤسسات هذا النوع من الإنتاج، خاصة وأنها تعلم أن غالبية ما ستنتهي له هذه التحقيقات من نتائج لن تتوافق مع مصالحها. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى المجلة الأمريكية الشهيرة "نيوزويك"، حيث قررت المجلة بعد صعوبات مالية الاستغناء عن طاقم كبير من الصحافيين المعنيين بتغطية الأخبار والقصص الإخبارية، وذلك بهدف التركيز على التقارير والتحقيقات ومقالات الرأي، التي تسلط الضوء على ما وراء الخبر أو سياقاته. ولم تعلن المجلة حتى اليوم، ما إذا كانت هذه السياسة الجديدة قد صححت أوضاعها المالية المتعثرة. والسؤال هنا- وهو سؤال غير بريء- هل ثمة معلن سيرضى برعاية تحقيق استقصائي سياسي يتطلب أشهرا من البحث والتقصي قبالة تقديم رعايته التجارية لبرنامج مسابقات تلفزيوني يشاهده الملايين حول العالم؟!

البحرين وهي نموذج صغير - تسهل دراسته وسبر تفاصيله - عايشت مثل هذا التحدي بوضوح بعد الأحداث التي عصفت بها في 14 فبراير العام 2011.

لا تمتلك الصحافتان الورقية والتفزيونية في البحرين اليوم أي شراكة حقيقية في إدارة الصراع الدائر في هذه البلاد التي تتميز بسهولة الوصول إلى شبكة الإنترنت[2]. وبعد حملة أمنية قمعية شملت أكثر من 200 إعلامي[3] بعد إعلان حالة الطوارئ في 15 مارس 2011 انتقل الخبر - وكامل مشهد الصراع - إلى الفضاء الإلكتروني، في المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي. ولم يقتصر هذا الانتقال على الصحافيين المستقليين وقوى المعارضة وجماعات حقوق الإنسان، بل شمل وزارات الدولة والأجهزة الأمنية أيضاً [4]

لا يجدر الاهتمام بالنموذج البحريني لصغره وإمكانية دراسة البيئة الحاضنة لهذا التغيير وحسب، لكن أيضاً لفاعليته، حيث يؤكد تقرير فريدوم هاوس للعام 2012 أن "كلمة (البحرين) كانت الأكثر تداولاً في تويتر عبر مستخدميه في الدول العربية جميعاً". يضاف لذلك، أن غالبية البحرينيين اليوم هم مواطنون نشطون على الإنترنت.

مهنة الترفية والدعاية

في مستوى النتائج وجمع الخلاصات، لا يُنظر اليوم إلى الصحافي بوصفه "المواطن الذي أعطاه المجتمع حصانة أدبية ليتأكد من أن السلطات الثلاث: التشريعية، التنفيذية، القضائية، وكافة مؤسسات المجتمع المدني تعمل وفق مصالحه وتوقعاته"[5].. لا يمكن النظر إلى الصحافي في هذا السياق لا من ناحية "الدور" المطلوب منه، ولا "التموضع" في الصراعات الدائرة بين مكونات المجتمع. واقع الحال، ان ثمة حالة إرباك وارتباك تاريخية تعصف بهذه المهنة، وبالمشتغلين فيها.

مما لا شك فيه اليوم أن النموذج الاقتصادي الكلاسيكي لمؤسسات الإعلام والصحافة قد انهار فعلاً[6]. ما تبقى، هي نماذج متباينة الهياكل والتركيب من الشمال إلى الجنوب. وعلى الرغم من أن هذه الإشكالية تاريخية في الأساس[7]، إلا أنها اليوم أكثر وضوحا، وتأثيراً. تارة تكون هذه المؤسسات متورطة بالمال السياسي وأجندة الدول والحكومات الشمولية خصوصا في دول الجنوب، وبصناعة إعلام وصحافة "الترفيه" و"الجوائز المليونية" تارة أخرى. وعليه، تحول الصحافيون - كنتيجة لهذا المأزق - إلى مجرد مخربين مزعجين يشتغلون فيما تبقيه لهما هاتان السلطتان من هوامش، هنا أو هناك.

وإذا كان مأزق الصحافة الحرة مقتصراً على الخروج من سيطرة وتوجيه "رأس المال" في السابق، فهو اليوم قد تفاقم، ومن أجلى الصور، امتداده إلى ما أورثه "البذخ" الإعلامي من الطباعة الفاخرة إلى الأستديوهات الفخمة والأجهزة الباهضة والجوائز المليونية من إنهيار شامل للمؤسسات الصحافية الصغيرة والمتوسطة الحجم وحصر المنافسة والربحية لصالح المؤسسات الكبيرة. والأخيرة بالطبع هي دائما ما تكون مرتبطة بالدول والحكومات.

وبما لا يقل أهمية وتأثيراً، تمتد أزمة (الصحافي) إلى ما أفرزه التطور"التكنولوجي" من رفد المجتمعات بوسائط تقنية اتصالية متطورة، باتت لا تمهل الصحافي "الكلاسيكي" الساعات - أو حتى الدقائق - التي يحتاجها لحبك قصته الإخبارية، وتقديمها.

وسواء كانت الدول من قادت هذا "الانقلاب" على الصحافة والصحافيين أو كان المجتمع ذاته، فإن أحداً لم يقدم حتى الآن توصيفاً دقيقاً لهذا المأزق، أو معناه. قد يتفهم/ يستشعر هذه الإشكالية الصحافيون في دول الجنوب أكثر مما هو الحال في الشمال لأسباب يطول شرحها، لكنه بالتأكيد - على أقل تقدير - "هاجس" موجود لدى جميع الصحافيين الذين يؤمنون بأنهم ليسو جزءاً من آلات الدول الدعائية، أو برامج "الترفية" التلفزيونية، وجوائزها المليونية.

من حرية الصحافة إلى حرية التعبير

لم تنحصر امتدادات هذه "الإشكالية" على عمل الصحافيين الكلاسيكيين ومنتجهم اليومي وحسب، بل امتدت إلى المنظمات والهيئات الدولية المعنية بحرية الصحافة والإعلام. ويمكن في هذا السياق تتبع بيانات وتقارير الدفاع عن حرية الصحافة حول العالم كنموذج.

في المنطقة العربية ومنذ الربيع العربي، تبدو بيانات الاتحاد الدولي للصحافيين IFG شحيحة إذا ما قورنت بالبيانات الصادرة عن منظمة مثل "مراسلون بلا حدود" أو "لجنة حماية الصحافيين- الولايات المتحدة" CPJ أو حتى الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، أو تلك المنظمات التي تعنى بالدفاع عن المدونيين والنشطاء الإلكترونيين في مواقع التواصل الاجتماعي.

لا يتعلق الفارق هنا بمدى فاعلية ونشاط غرف الرصد والمتابعة في الاتحاد الدولي للصحافيين مقارنة ببقية المنظمات، بل بنطاق التغطية والاهتمام.

قانونياً وبالنسبة لفضاء الاهتمام لا يصدر الاتحاد الدولي للصحافيين بياناته إلا للدفاع عن الصحافيين المسجلين في النقابات الوطنية في بلدانهم، ولا يتخطى ذلك إلا في حدود ضيقة، وهو بالمناسبة عدد كبير من الناحية الرقمية[8]، لكنه رغم ذلك، رقم هادئ لا يصاحب أعماله الكثير من الانتهاكات والتشويش، ما خلا البلدان التي تشهد حروبا أو هي بلدان فقيرة في التكنولوجيا ووسائل الاتصال. لقد انتقل الصراع الحقيقي وانتقلت (الانتهاكات) المتعلقة بحرية الصحافة إلى بيئة جديدة، بيئة رقمية، أهم حواضنها هي مواقع التواصل الاجتماعي "الفايس بوك" و"تويتر" و"المدونات". وكنتيجة، بات مانشيت (الدفاع عن حرية التعبير) أكثر رواجاً واستخداماً وضرورة قبالة (الدفاع عن حرية الصحافة)، فأين غاب الصحافيون؟، هل يعودون؟، وكيف؟

 

هوامش

[1] يتقدم النشرة في العديد من القنوات التلفزية اللبنانية مقدمة سياسية بمثابة مقالة رأي تقدم عرضاً سريعاً للأحداث ودلالاتها بحسب القناة وتوجهاتها السياسية، وهو قالب بات معتمداً في غالبية القنوات التلفزيونية في لبنان وسورية.

[2] ٪92من الوزارات والمؤسسات الحكومية في البحرين لها تواجد على شبكة الإنترنت.

[3] يمكن مراجعة تقرير رابطة الصحافة البحرينية الكلمة تساوي الموت 2012 أو تقرير الصمت جريمة حرب على الرابطين.


[4] لوزارة الداخلية البحرينية والنيابة العامة حسابات نشطة على موقع التواصل الإجتماعي "تويتر" وغالباً ما تأتي الردود الرسمية على هذه الحسابات قبل أن يتم بثها على تلفزيون البحرين الحكومي أو تنشر في الصحف اليومية.

[5] أميل لإعتماد هذا التعريف للصحافي، وهو تعريف تعتمده بعض المراكز والجامعات الأمريكية.

[6] تؤكد العديد من الدراسات الاقتصادية أن المؤسسات الصحافية الصغيرة والمتوسطة إن لم تكن متورطة بالتمويل السياسي فهي عاجزة بالضرورة عن مجاراة المؤسسات الكبرى وعن توفير المداخيل الكافية لتشغيلها.

[7] لا تقدم غالبية الجامعات في المنطقة العربية أي نماذج اقتصادية لإدارة المؤسسات الإعلامية، كما أن غياب البيانات المالية للمؤسسات الإعلامية أثر بوضوح في التغطية على العديد من مظاهر الفساد المالي في المؤسسات الإعلامية.

[8] تأسس الاتحاد الدولي للصحافيين في العام 1926 ويضم أكثر من 600 الف صحافي من أكثر من 100 دولة.

* صحفي بحريني.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus