التسوية المرة

عادل مرزوق - 2011-06-04 - 10:38 ص



عادل مرزوق*


تبدو الأسئلة في هذا التوقيت بالتحديد أكثر من الإجابات المتوفرة. حالة دقيقة ومعقدة وبلد يسير إلى المجهول، سياسياً  - وهي القناعة السائدة لدى الجميع - تبدو مرحلة ما بعد انتهاء حالة السلامة الوطنية هي بالضرورة مرحلة الحوار والبحث عن التسوية. رافق ذلك في الأسابيع الأخيرة، مزاج متقلب ولهجة أمريكية وبريطانية أكثر حدة ووضوح، رسالة مفادها: لم يعد من المقبول أن تستمر هذه الأوضاع أكثر، فالأمريكيون ليسو مستعدين لأزمة اقليمية كبرى في منطقة الخليج العربي لسبب تبدو معالجته بسيطة، ومتاحة في اليد.

على الأرض أيضاً، رسالة أخرى قدمها الشعب في اليوم الأول من يونيو الجاري، خلاصتها: كل ما جرى من قتل وإذلال وقهر واستهداف واعتقالات وإقالات لم يغير من عزيمة الناس شيئاً، سيبقى الشارع ينتظر الفرصة – كل يوم – ليسير الى دوار اللؤلؤة من جديد، ليعيد رسم خريطة الدوار لما كانت عليه، ولتستمر المطالبة بالحرية والديمقراطية مضافاً لها التحقيق مع كل من تسبب في إراقة الدماء وانتهاك الحرمات.

إذن، وبعد هاتين المقدمتين نسأل: هل نحن بالفعل على مقربة من الوصول لتسوية تعيد البحرين لما كانت عليه قبل الرابع عشر من فبراير الماضي؟. يبدو لي – واتمنى أن أكون مجانباً للصواب – أن أحداً ما وبأي وصفة كانت لن يستطيع أن يفعل ذلك. فليس من المعقول أن ينسى مجتمع صغير - لا يزيد تعداد مواطنيه (الأصليين من السنة والشيعة ) عن 400 ألف مواطن -  مقتل نيف وثلاثين من أبنائه في غضون أربعين يوماً. وليس في مقدرو هذا الشعب أيضاً، ان يتجاوز اوجاع أكثر من 3000 عائلة تعرض أفرادها رجالا ونساء إما للاعتقال، أو التعذيب، أو تلفيق الاتهامات، أو الإقالة من العمل.

  لم يدرك – الساذج – الذي أدار تفاصيل هذه اللعبة، أنه ربح جولة دوار اللؤلؤة ومستشفى السلمانية ليخسر الدولة كلها. 

ولو تجاوز أبناء البحرين كل ذلك  من باب أسطورة الشعب الطيب والأمل بغد أفضل، فذلك لن يكون كافياً ايضاً، فلقد شوهت الدولة عبر ما اقدمت عليه – ولا تزال -  في الأيام الماضية وما اقترفته من أخطاء قاتلة، شوهت حالة التعايش والقبول بالآخر بين المكونين الرئيسيين فيها (السنة والشيعة). وليس سراً أن خطاب "لا للعفو" والذي تبنته مؤسسة الحكم بعد السادس عشر من مارس (الهجوم الثاني على الدوار) لتعلق لوحات الدعوة للإعدام بعده، قد ولدَ أيضاً في طرف المعارضة – بأغلبيتها الشيعية  - شعارات مقابلة، فحواها أن لا مرور من الحوار دون محاكمات وعقوبات لكل من اطلق الرصاص ومارس التعذيب، وفي كل وزارة وإدارة ومؤسسة ومدرسة ومستشفى وشركة حسابات طائفية معلقة بين أبناء الشعب كافة.

 كارثة ذات تفاصيل طائفية ممقوتة، وتتحمل الدولة وحدها، مسؤولية كل هذا بما اقترفته وما عملت عليه من تحشيد الطائفة السنية لمعركة طائفية كبرى وإيهامها أن المعارضة ليست سوى مشروع ابادة للطائفة السنية. لم يدرك – الساذج – الذي ادار تفاصيل هذه اللعبة، أنه ربح جولة دوار اللؤلؤة ومستشفى السلمانية ليخسر الدولة كلها، وخسارة الدولة التي اعنيها ليست خسارة الحكم، بل خسارة الاستقرار والتعايش بين مكوناتها. لقد حولت الدولة في الثلاثة الاشهر الماضية كل وزاراتها ومؤسساتها وهيآتها وجامعاتها ومدارسها ومستشفياتها وبلدياتها لبؤر صراع طائفي لن يخمد في عام أو عامين. فهل يستطيع الحوار  - فعلاً  - أن يصلح ما أفسدته سياسة الدولة في الشهور الماضية، فليكن انه استطاع حلحلة الملف السياسي، فكيف سيستطيع اعادة المعلمات للجلوس معاً على طاولة واحدة، وكيف سيستطيع أن يعيد الثقة بين الأطباء أنفسهم، والجار وجاره، والطالب وزميله. لست احاول فرض سوداوية على فرص التسوية، لكن أريد أن اقول وبوضوح: أن كلفة التسوية باهضة وتتضاعف كل يوم، وأن على الدولة ان تدفعها اليوم قبل غد.

نعود لموضوعة الحوار، أفاقه، اطرافه، وتوقعات مسرحه ونتائجه، واخيراً مدى قبول الناس بهذه النتائج. اعتقد أن لا فرصة للحوار داخل المجلس النيابي أو عبر السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الوزراء، فالقرار السياسي في البحرين ليس في هذه الغرف أصلاً، ومن يجلسون على تلك الكراسي ليسوا أطرافاً مؤثرين فيه. ما تطلبه المعارضة لا يعني رئيس الوزراء في شخصه ولا يعني المنبر والأصالة في كيانهما السياسي. هو موضوع يتعلق بمؤسسة الحكم العليا ودستور البلاد، ولقد أثبتت التجربة أن هذه الأطراف ليست سوى أدوات تنفيذية لما تريده مؤسسة الحكم نفسها.

  خيار القبول بالحوار داخل المجلس النيابي وبالشراكة مع السلطة التنفيذية هو انتحار سياسي لمطالب الشعب ولحركة 14 فبراير.

لا يمكننا تفسير دعوة الملك لإطلاق الحوار إلا كمحاولة اخيرة لإغلاق فرصة الحديث مجدداً عن مقترح المجلس التأسيسي الذي طالبت به الجمعيات السياسية في مداولاتها مع ولي العهد. وتسعى مؤسسة الحكم من هذا السياق الى فرض تسوية (شكلية) قد لا تزيد عن بعض التعديلات الدستورية التي قد تحمل تعديلاً في الدوائر الإنتخابية مع تقليص مجلس الشورى عدداً وصلاحيات. وهو ما قد ينتهي بأن نتيجة الحوار المتوقعة في أحسن الحالات هي الخروج ببرلمان أكثر قدرة على التأثير في نطاقات محددة مع الإبقاء على القرار الحقيقي رهيناً بالمجلس الوطني الذي لن تقبل الدولة بأن يكون ذا أغلبية معارضة. ولعل أهم النقاط حساسية في هذا التصور، هو خطورة أن تتسرع المعارضة لتقدم للدولة هدية انهاء مظاهر الاعتصام والاحتجاجات قبل نهاية التسوية والتوافق عليها. وهو خطأ كبير إن أقدمت المعارضة عليه، فهو بمثابة الإعلان من طرف واحد عن نهاية حركة الرابع عشر من فبراير  في البحرين مقابل حوار يبدأ في شهر يوليو المقبل، وللتذكير لمن نسى، فهو خطاب الدولة التي كانت تكرره منذ عامين اثنين.

وعليه، فإن خيار القبول بالحوار داخل المجلس النيابي وبالشراكة مع السلطة التنفيذية هو انتحار سياسي لمطالب الشعب ولحركة 14 فبراير وتفويت غير مسؤول لاستثمار التأييد الدولي من شتى العواصم الدولية لمطالب الشعب، وهو ايضاً مخالف لما توافقت عليه الجمعيات السياسية وهو الحد الأدنى المقبول. ونستغرب هنا بيان الجمعيات السياسية المحسوبة على التيار الديمقراطي الذي رحب بالحوار تحت تلك المظلة، وإذا كنا نتفهم تناولات جمعية المنبر التقدمي فإننا نتساءل عن ادراج اسم جمعية وعد في ظل غياب أمينها العام في المعتقل. وخلاصة القول، إذا كانت واشنطن ولندن تؤكدان أن خروج المعتقلين وايقاف العنف من جانب الدولة هي ضرورات لنجاح الحوار في البحرين، فلماذا تقبل الجمعيات السياسية بما هو أقل منذ لك. الكرة الآن في ملعب الدولة وبشهادة دول العالم، وعلى المعارضة ان تستثمر هذا الإجماع الدولي معها.

يبقى أن يكون الطريق الأمثل للحوار والتسوية هو الذهاب لمشروع أكبر وهو مشروع المصالحة الوطنية والذي يتمثل في إقرار مجلس تأسيسي تنتخب أغلبية أعضائه لإعداد دستور جديد للبلاد، أو عبر بدء حوار ثنائي بين الدولة والمعارضة (الجمعيات السياسية والنخبة السياسية في المعتقلات) لإقرار التعديلات الدستورية الحقيقية وطرحها للاستفتاء العام على أن يصاحب كل هذا الإفراج عن جميع المعتقلين واعادة جميع المفصولين لأعمالهم وانشاء لجنة تحقيق يكون للمعارضة حق تعيين نصف أعضائها وتحت مراقبة مؤسسات حقوقية دولية محايدة، وذلك للتحقيق  في جميع التجاوزات ومظاهر العنف التي حدثت منذ بدء الأحداث وتقديمهم للمحاكمة العادلة.

وإذا كانت الدولة تسعى لإدماج باقي الجمعيات السياسية في الحوار الوطني فإن ذلك لابد ان يكون مشروطاً بأن تمثيل هذه الجمعيات لن يؤثر على مصداقية التمثيل النسبي لجمعيات المعارضة والموالاة وفق ما خرجت به نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة باعتبار البحرين دائرة انتخابية واحدة، بمعنى أن لا تخلو مشاركة أي طرف في الحوار في حصة الـمعارضة التي يجب أن لا تقل عن  62 % من مجموع الأصوات في المجلس التأسيسي. وللدولة هنا أن تضع ضماناتها التي أكدت الجمعيات السياسية منذ البدء ضمانها  اقرار الملكية الدستورية وأن يكون لأسرة آل خليفة الحكم وفق النظام الوراثي، مع احتفاظ الملك بسلطة تعيين رئيس مجلس الوزراء ووزراء الوزارات السيادية شريطة موافقة ثلثي مجلس النواب على هذه التعيينات. وسنناقش في المقالة المقبلة تفاصيل هذه المصالحة.

العديد من السيناريوهات الأخرى للحوار قد تكون مجدية، لكنها بالضرورة ليس ما اعلن عنه الملك خلال كلمته الأخيرة. ويبقى الرهان الحقيقي على نجاح اي سيناريو معلقاً بإظهار الدولة لجديتها في هذا الحوار أولاً، وعلى مدى قدرة هذا السيناريو على إقناع مختلف المكونات السياسية للمعارضة على القبول به.

*كاتب بحريني

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus