"حفلة التيس" وأعضاء مجلس الدكتاتور
يوسف سلمان يوسف - 2013-08-01 - 12:00 ص
يوسف سلمان يوسف*
في روايته الشهيرة "حفلة التيس" يظهر الروائي والكاتب الصحافي والسياسي البيروي، ماريو يوسا، براعة في كشف المجتمعات الدكتاتورية والنظم القمعية الفاسدة في أميركا اللاتينية، إلى جانب تسليطه الضوء على الحركات الثورية ومجموعات المقاومة لهذه النُظم، وكيف تُنشّط فعالياتها وتتوحّد دوافعها ـ"الشخصية والوطنية الخالصة"ـ لإنجاز مهمة الخلاص، وتخطط لإزالة مستبد وطاغية الدومينيكان "رفائيل تريخو".
في جزئية من رائعته "حفلة التيس"، يشير (يوسا\9 إلى أفراد إحدى مجموعات المقاومة، التي أخذت على عاتقها التخلص من هذا الطاغية، فيصف الدوافع المزدوجة التي جمعتهم لهذه المهمة الخطيرة، فكان في داخل كل واحد فيهم داوفع شخصية ووطنية في آن، حيث كانت انتماءاتهم من فئات الشعب المختلفة، منهم دافعه الانتقام والخلاص من العهد الأسود، ومنهم من ينشد التحرير والانعتاق بأي شكل من نيّر الدكتاتورية؛ فذاك وطني صرف يريد تحرير وطنه، وذاك عسكري أنّبه ضميره في لحظة ما، بعد تنفيذ مهمات قذرة وبشعة أمرته بها حاشية الطاغية للقيام بارتكابها بدم بارد، وهناك من يسعى للانتقام على خلفية أذى أصاب أحد معارفه، أو أصاب أقاربه، أو أصابه، أو كان شاهدًا عليه عن قرب وتحسّس لزوجة الدم لبشاعته.. هذا الخليط الغريب العجيب واختلاف أفكار أفراد هذه المجموعة تراها تنتفض في لحظة ما وتتفق على شيء واحد: "تريخو" ينبغي أن يزول، أو يموت!
لا وجه للمقارنة بالطبع بين المرحلة الـ"تريخوية" في الدومينيكان، التي جثمت على صدر شعب هذه البلاد لأكثر من ثلاثين عامًا، بمساعدة أميركية، وانتهت بتخلي الأميركان عن دكتاتورها وباغتيال طاغيتها، بالطبع لا وجه للمقارنة، لا في الزمان ولا الظرف ولا موازين القوى ولا أساليب النضال في مرحلة الستينات من القرن الماضي، وبين الظروف الذاتية والموضوعية ووسائل النضال السلمية والمقاومة المدنية في البحرين، التي جيشها وشرطتها ورجال أمن قبيلتها من الانكشارية والمرتزقة الأجانب. لكن الأكيد أن هناك مشتركات متشابه بين الأنظمة الاستبداية التي تبدأ بقمع الحريات وتكميم الأفواه، ثم بتذويب المؤسسات وتغييب القانون، وتنتهي بتحويل أركان الدولة الثلاثة: "القانون والمؤسسات والحريات"، في يد فرد أو قبيلة مطلقة حتى ينعدم مفهوم الدولة بالكامل، وسط هيمنة أفراد من مشيخة واحدة يتم تأليهها بواسطة "حفلات الرّدح"، أو جعل حاكمها كائنًا معصومًا عن الخطأ، ثلثه من البشر وثلثاه الآخران من إله، عن طريق مدّاحين، متسلقين، وصوليين، ومنتفعين، لإقامة "مجتمع السمع والطاعة".
عندما تعيد قراءة "حفلة التيس"، مرة ومرتين ترى يوسا يتحدث عن حرارة أوضاعك ويقلّب زواياها المختلفة، فيأخذك جولة من الرفاع، حيث القصور، إلى أصغر قرية بحرينية، حيث بيوت الطين التي تكثر فيها المعارضة وتنتشر، وتقارن الفوارق الطبقية؛ أولم تكن جل زوايا الأنظمة الشمولية والقمعية الفاسدة متشابهة في جميع القارات؟!: يتولى الدكتاتوريون السلطة، يبدأون عهدهم بالقمع، ويحيطون أنفسهم بحاشية نوعياتها منحطة وقذرة، فيستولون على السلطات والثروات والأراضي، ويسمون المدن بأسمائهم وأسماء أبنائهم، ويطلقون يد مرزقتهم ومخابراتهم للقتل وللقمع والنهب والتعذيب في صفوف معارضيهم، فيما يبقون هم آباء الوطن وأمهاته وفخامته وسموه وجلالته، وغالبية الشعب رعايا من رعاياهم، يعيشون في منطقة محرمة، تحرم عليهم النقد أو المس بالحاكم وقدسيته وذريته.
أبسط مثال على ذلك ما وصلت إليه "جلسة الرّدح الطارئة للسلطة التشريعية بغرفتيها"، يوم الأحد، 28 يوليو/تموز 2013، حيث اختزلت صورة واضحة لـ"حفلة التيس" عندنا في البحرين، فكانت "دولة القانون والمؤسسات والحريات واحترام حقوق الإنسان وآدميته"، وفق مفهوم الدكتاتوريات، حاضرة في هذه الجلسة، حتى اكتشفنا أننا دخلنا جميعًا في المجهول، والسبب أن لدينا قيادة سياسية لا تنظر أبعد من حماية أفراد مشيختها، وهناك نواب وشوريون معينون، لا ينظرون أبعد من تأليه "قائد الضرورة والقائد المنقذ"، في حين لا يملكون الحد الأدنى من القدرة على ترجمة طموح المواطنين، في العيش بـ"شوية" كرامة وتفكيك احتكار السلطات والثروات بفصل المشيخة الخليفية والمقربين عن الدولة، وذلك للحديث عن دولة ذات مؤسسات، لتكتمل أركان الدولة الحقيقية، القادرة على إدارة شؤون المواطنين بحسب الكفاءة ودون تمييز، لا من خلال خطب مكتوبة مسبقًا في لعبة مكشوفة، مليئة بالمصطلحات الجميلة، لتوظيفها لأغراضهم، وإفراغها من محتواها فيما بعد، ومع ذلك خانهم الفهم، وطريقة الطرح، لإقناع الناس بأن هذه المشيخة قدرنا ودونها.. الكارثة!
فجأة صار 98% من هؤلاء أعضاء الشورى والنواب، كما في "روح الثورات" لمؤرخ الثورة الفرنسية غوستاف لوبون، بوصفه لهم بأنهم كانوا مطبوعين على اللامبالاة، محايدين وهم يرون المقاصل تعمل بأقصى سرعتها.. كان شعارهم: "مادامت المقصلة بعيدة عن رقبتي فالبلاد تسير على الطريق الصحيح".
ليتهم كانوا كذلك، في لا مبالاتهم وحياديتهم، لكنهم تفننوا في قول القبيح والمعيب في حق شعبهم بألفاظ مقززة، مطالبين بتغليظ العقوبة، حد الإعدام، للمعارضين، وسحب جنسياتهم، وخال لهم خيالهم أنهم كلما زادوا في السب والشتم كلما قاموا بتنفيد المهمة المقدسة التي تستحق منا جميعًا السمع والطاعة وكثير من الانحناء لقائد الضرورة، معتقدين أن الخطابات النارية و"التنجيم" وبضع مقالات من "كويتبة" ستحل المشاكل بإعطائها "تفويضًا" للملك بسحق المعارضين، وستبقي البحرين لا مجال فيها إلا لرأيه، والبديل فقط قتل الناس وتكديسهم في الزنازن والمعتقلات!
جميعنا يعرف أنه منذ استقلال البحرين، في العام 1971، وما قبله بعقود مضت، والكوارث تنخر في عظم شعبنا، أليس كافيًا أن يخرج الناس في تظاهرة تنديد تطالب بالعدالة وتقرير المصير بعد كل هذه التضحيات الجسام على مذبح الكفاح الوطني وفصل المشيخة الخليفية عن الدولة؟.. لماذا يستكثر علينا البعض احتجاجات سلمية لتغيير مصيرنا، ونحن نرى شعوبًا تغير حكامها وحكوماتها بين الحين والحين؟..لا نريد أن نشعر بالحسرة، فموعد توحيد الغضب لتمرد 14 أغسطس/آب قاب قوسين أو أدنى، وشعبنا قادر على أن يقول كلمته كما قالها في 14 فبراير/ شباط 2011 بأمواجه البشرية الغاضبة!
*كاتب من البحرين.